كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 23)

مَعَ التَّهَكُّمِ لِأَنَّهُمْ
يَتَمَنَّوْنَ مَا يَحْجُبُ عَنْهُمْ حَرَّ النَّارِ فَعَبَّرَ عَنْ طَبَقَاتِ النَّارِ بِالظُّلَلِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمْ لَا وَاقِيَ لَهُمْ مِنْ حَرِّ النَّارِ عَلَى نَحْوِ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ، وَقَوْلُهُ لَهُمْ تَرْشِيحٌ لِلِاسْتِعَارَةِ.
وَأَمَّا إِطْلَاقُ الظُّلَلِ عَلَى الطَّبَقَاتِ الَّتِي تَحْتَهُمْ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ وَلِأَنَّ الطَّبَقَاتِ الَّتِي تَحْتَهُمْ مِنَ النَّارِ تَكُونُ ظُلَلًا لِكُفَّارٍ آخَرِينَ لِأَنَّ جَهَنَّمَ دَرَكَاتٌ كَثِيرَةٌ.
ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ.
تَذْيِيلٌ لِلتَّهْدِيدِ بِالْوَعِيدِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ [الزمر: 15] الْآيَةَ، أَوِ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ بِتَقْدِيرِ سُؤَالٍ يَخْطُرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ لِوَصْفِ عَذَابهمْ بِأَنَّهُ ظلل مِنَ النَّارِ من فَوْقهم وظلل مِنْ تَحْتِهِمْ أَنْ يَقُولَ سَائِلُ: مَا يَقَعُ إِعْدَادُ الْعَذَابِ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ فَوَاتِ تَدَارُكِ كُفْرِهِمْ؟ فَأُجِيبَ بِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ ذَلِكَ الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ لِتَخْوِيفِ اللَّهِ عِبَادَهُ حِينَ يَأْمُرُهُمْ بِالِاسْتِقَامَةِ وَيُشَرِّعُ لَهُمُ الشَّرَائِعَ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَرُسُلِهِ تَكُونُ ذَلِكَ عَاقِبَتُهُمْ. وَلَمَّا كَانَ وَعِيدُ اللَّهِ خَبَرًا مِنْهُ وَلَا يَكُونُ إِلَّا صِدْقًا حَقَّقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ فِي الْحَيَاةِ وَتَخْوِيفُ اللَّهِ بِهِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُخَوِّفُهُمْ بِالْإِخْبَارِ بِهِ وَبِوَصْفِهِ، أَمَّا إِذَاقَتُهُمْ إِيَّاهُ فَهِيَ تَحْقِيقٌ لِلْوَعِيدِ.
وَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا بِطْرِيقِ الْمُقَابَلَةِ جَعْلُ الْجَنَّةِ لِتَرْغِيبِ عِبَادِهِ فِي التَّقْوَى، إِلَّا أَنَّهُ طَوَى ذِكْرَهُ لِأَنَّ السِّيَاق موعظة لأهل الشِّرْكِ فَاللَّهُ جَعَلَ الْجَنَّةَ وَجَهَنَّمَ إِتْمَامًا لِحِكْمَتِهِ وَمُرَادِهِ مِنْ نِظَامِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِيَكُونَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى أَكْمَلِ مَا تَرْتَقِي إِلَيْهِ النَّفْسُ الزَّكِيَّةُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجَنَّةَ جَعَلَهَا اللَّهُ مَسْكَنًا لِأَهْلِ النُّفُوسِ الْمُقَدَّسَةِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ مِثْلَ الرُّسُلِ فَلِذَلِكَ هِيَ مَخْلُوقَةٌ مِنْ قَبْلِ ظُهُورِ التَّكْلِيفِ، وَأَمَّا جَهَنَّمُ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا مُقَدَّمَةٌ وَهُوَ ظَاهِرُ
حَدِيثِ: «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفْسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفْسٍ فِي الصَّيْفِ» .
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا تُخْلَقُ يَوْمَ الْجَزَاءِ وَيُتَأَوَّلُ الْحَدِيثُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا وَصَفَ مِنَ الْخُسْرَانِ وَالْعَذَابِ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ.

الصفحة 362