كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 23)

الْأَمْرِ وَلَكِنَّهُ يَجْرِي عَلَى حَسَبِ اجْتِهَادِ الْحَاكِمِينِ، وَاللَّهُ لَمْ يُكَلِّفِ الْحَاكِمَ إِلَّا بِبَذْلِ جُهْدِهِ فِي إِصَابَةِ الْحَقِّ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أجر وَاحِد» .
[55- 57]

[سُورَة يس (36) : الْآيَات 55 إِلَى 57]
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57)
هَذَا من الْكَلَام الَّذِي يُلْقَى مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَهَذَا مِمَّا يُقَالُ لِمَنْ حَقُّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ إِعْلَامًا لَهُمْ بِنُزُولِ مَرْتَبَتِهِمْ عَنْ مَرَاتِبِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِعْلَانًا بِالْحَقَائِقِ لِأَنَّ ذَلِكَ عَالَمُ الْحَقَائِقِ وَإِدْخَالًا لِلنَّدَامَةِ عَلَيْهِمْ عَلَى مَا فَرَّطُوا فِيهِ مِنْ طَلَبِ الْفَوْزِ فِي الْآخِرَةِ. وَهَذَا يُؤْذِنُ بِأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ عُجِّلَ بِهِمْ إِلَى النَّعِيمِ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ إِلَى النَّارِ أَهْلُهَا، وَأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ غَيْرُ حَاضِرِينَ ذَلِكَ الْمَحْضَرَ.
وَتَعْرِيفُ الْيَوْمَ لِلْعَهْدِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَفَائِدَةُ ذِكْرِ الظَّرْفِ وَهُوَ الْيَوْمَ التَّنْوِيهُ بِذَلِكَ
الْيَوْمِ بِأَنَّهُ يَوْمُ الْفَضْلِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ.
وَالشَّغْلُ: مَصْدَرُ شَغَلَهُ، إِذَا أَلْهَاهُ. يُقَالُ: شَغَلَهُ بِكَذَا عَنْ كَذَا فَاشْتَغَلَ بِهِ. وَالظَّرْفِيَّةُ مَجَازِيَّةٌ جُعِلَ تَلَبُّسُهُمْ بِالشُّغْلِ كَأَنَّهُمْ مَظْرُوفُونَ فِيهِ، أَيْ أَحَاطَ بِهِمْ شُغْلٌ عَنْ مُشَاهَدَةِ مَوْقِفِ أَهْلِ الْعَذَابِ صَرَفَهُمُ اللَّهُ عَنْ مَنْظَرِ الْمُزْعِجَاتِ لِأَنَّ مُشَاهَدَتَهَا لَا تَخْلُو مِنِ انْقِبَاضِ النُّفُوسِ، وَلِكَوْنِ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودَ عَدَلَ عَنْ ذِكْرِ مَا يَشْغَلُهُمْ إِذْ لَا غَرَضَ فِي ذِكْرِهِ، فَقَوْلُهُ:
فِي شُغُلٍ خَبَرُ إِنَّ وفاكِهُونَ خَبَرٌ ثَانٍ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبٌ شُغْلٍ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِضَمَّتَيْنِ وَهُمَا لُغَتَانِ فِيهِ.
والفاكه: ذُو الْفُكَاهَةِ بِضَمِّ الْفَاءِ، وَهِيَ الْمِزَاحُ بِالْكَلَامِ الْمُسِرِّ وَالْمُضْحِكِ، وَهِيَ اسْمُ مَصْدَرٍ: فَكِهَ بِكَسْرِ الْكَافِ، إِذَا مَزَحَ وَسُرَّ. وَعَنْ بَعْضِ أَهْلِ اللُّغَةِ: أَنَّهُ لَمْ

الصفحة 41