كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 23)

بِالْقَوْلِ فَلِذَلِكَ قِيلَ مَعْنَى يَدَّعُونَ يَتَمَنَّوْنَ. يُقَالُ: ادْعُ عَلَيَّ مَا شِئْتَ، أَيْ تَمَنَّ عَلَيَّ، وَفُلَانٌ فِي خَيْرٍ مَا ادَّعَى، أَيْ فِي خَيْرٍ مَا يَتَمَنَّى، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ
فِي سُورَة فصّلت [31] .
[58]

[سُورَة يس (36) : آيَة 58]
سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)
اسْتِئْنَافُ قَطْعٍ عَنْ أَنَّ يُعْطَفَ عَلَى مَا قَبْلَهُ لِلِاهْتِمَامِ بِمَضْمُونِهِ، وَهُوَ الدَّلَالَةُ عَلَى الْكَرَامَةِ وَالْعِنَايَةِ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ جَانِبِ الْقُدْسِ إِذْ يُوَجَّهُ إِلَيْهِمْ سَلَامُ اللَّهِ بِكَلَامٍ يَعْرِفُونَ أَنَّهُ قَوْلٌ مِنَ اللَّهِ: إِمَّا بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَإِمَّا بِخَلْقِ أَصْوَاتٍ يُوقِنُونَ بِأَنَّهَا مَجْعُولَةً لِأَجْلِ أَسْمَاعِهِمْ كَمَا سَمِعَ مُوسَى كَلَامَ اللَّهِ حِينَ نَادَاهُ مِنْ جَانِبِ الطَّوْرِ مِنَ الشَّجَرَةِ فَبَعْدَ أَنْ أَخْبَرَ بِمَا حَبَاهُمْ بِهِ مِنَ النَّعِيمِ مُشِيرًا إِلَى أُصُولِ أَصْنَافِهِ، أَخْبَرَ بِأَنَّ لَهُمْ مَا هُوَ أَسْمَى وَأَعْلَى وَهُوَ التَّكْرِيمُ بِالتَّسْلِيمِ عَلَيْهِمْ قَالَ تَعَالَى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التَّوْبَة: 72] .
وسَلامٌ مَرْفُوع فِي جَمِيع الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ. وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَتَنْكِيرُهُ لِلتَّعْظِيمِ وَرَفْعُهُ لِلدَّلَالَةِ على الدَّوَام والتحقق، فَإِنَّ أَصْلَهُ النَّصْبُ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ نِيَابَةً عَنِ الْفِعْلِ مثل قَوْله: فَقالُوا سَلاماً [الذاريات: 25] . فَلَمَّا أُرِيدَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى الدَّوَامِ جِيءَ بِهِ مَرْفُوعًا مِثْلَ قَوْلِهِ: قالَ سَلامٌ [هود: 69] ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْفَاتِحَة: 2] .
وَحَذْفُ خَبَرِ سَلامٌ لِنِيَابَةِ الْمَفْعُولِ الْمُطلق وَهُوَ قَوْله قَوْلًا عَنِ الْخَبَرِ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ: سَلَامٌ يُقَالُ لَهُمْ قَوْلًا مِنَ اللَّهِ، وَالَّذِي اقْتَضَى حَذْفَ الْفِعْلِ وَنِيَابَةَ الْمَصْدَرِ عَنْهُ هُوَ اسْتِعْدَادُ الْمَصْدَرِ لِقَبُولِ التَّنْوِينِ الدَّالِّ عَلَى التَّعْظِيمِ، وَالَّذِي اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْمَصْدَرُ مَنْصُوبًا دُونَ أَنْ يُؤْتَى بِهِ مَرْفُوعًا هُوَ مَا يُشْعِرُ بِهِ النَّصْبَ مِنْ كَوْنِ الْمَصْدَرِ جَاءَ بَدَلًا عَنِ الْفِعْلِ.
ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَتَنْوِينُ رَبٍّ لِلتَّعْظِيمِ، وَلِأَجِلِ ذَلِكَ عُدِلَ عَنْ إِضَافَةِ رَبٍّ إِلَى ضَمِيرِهِمْ، وَاخْتِيرَ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ بِوَصْفِ الرَّبِّ لِشِدَّةِ مُنَاسَبَتِهِ لِلْإِكْرَامِ وَالرِّضَى عَنْهُمْ بِذِكْرِ أَنَّهُمْ عَبَدُوهُ فِي الدُّنْيَا فَاعْتَرفُوا بربوبيته.

الصفحة 44