كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 24)

وَالْعَذَابُ الْمُخْزِي هُوَ عَذَابُ الدُّنْيَا. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا عَذَابُ السَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَالْعَذَابُ الْمُقِيمُ هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ، وَإِقَامَتُهُ خُلُودُهُ. وَتَنْوِينُ عَذابٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلتَّعْظِيمِ الْمُرَادِ بِهِ التَّهْوِيلُ.
وَأُسْنِدَ فِعْلُ يَأْتِيهِ إِلَى الْعَذَابِ الْمُخْزِي لِأَنَّ الْإِتْيَانَ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ يُفَاجِئُهُمْ كَمَا يَأْتِي الطَّارِقُ. وَكَذَلِكَ إِسْنَادُ فِعْلِ يَحِلُّ إِلَى الْعَذَابِ الْمُقِيمِ لِأَنَّ الْحُلُولَ مُشْعِرٌ بِالْمُلَازَمَةِ وَالْإِقَامَةِ مَعَهُمْ، وَهُوَ عَذَابُ الْخُلُودِ، وَلِذَلِكَ يُسمى منزل القَوْل حِلَّةً، وَيُقَالُ لِلْقَوْمِ الْقَاطِنِينَ غَيْرِ الْمُسَافِرِينَ هُمْ حِلَالٌ، فَكَانَ الْفِعْلُ مُنَاسِبًا لِوَصْفِهِ بِالْمُقِيمِ. وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ يَحِلُّ بِحَرْفِ (عَلَى) لِلدَّلَالَةِ على تمكنه.
[41]

[سُورَة الزمر (39) : آيَة 41]
إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)
الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمُ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ الْمُفِيدِ مُوَادَعَتَهُمْ وَتَهْوِينَ تَصْمِيمِ كُفْرِهِمْ عَلَيْهِ، وَتَثْبِيتِهِ عَلَى دَعْوَتِهِ. وَالْمَعْنَى: لِأَنَّا نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِفَائِدَةِ النَّاسِ وَكَفَاكَ ذَلِكَ شَرَفًا وَهِدَايَةً وَكَفَاكَ تَبْلِيغُهُ إِلَيْهِمْ فَمَنِ اهْتَدَى مِنَ النَّاسِ فَهِدَايَتُهُ لِنَفْسِهِ بِوَاسِطَتِكَ وَمَنْ ضَلَّ فَلَمْ يَهْتَدِ بِهِ فَضَلَالُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَا عَلَيْكَ مِنْ ضَلَالِهِمْ تَبِعَةٌ لِأَنَّكَ بَلَّغْتَ مَا أُمِرْتَ بِهِ. وَلِذَلِكَ خُولِفَ بَيْنَ مَا هُنَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِي صَدْرِ السُّورَةِ إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ [الزمر: 2] ، لِأَنَّ تِلْكَ فِي غَرَضِ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ إِنْزَالُ الْكِتَابِ إِلَيْهِ، ولِلنَّاسِ مُتَعَلق ب- أَنْزَلْنا، وبِالْحَقِّ حَالٌ مِنَ الْكِتابَ،
وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، وَاللَّامُ فِي لِلنَّاسِ لِلْعِلَّةِ، أَيْ لِأَجْلِ النَّاسِ. وَفِي الْكَلَامِ مُضَافٌ مَفْهُومٌ مِمَّا تُؤْذِنُ بِهِ اللَّامُ مِنْ مَعْنَى الْفَائِدَةِ وَالنَّفْعِ أَيْ لِنَفْعِ النَّاسِ، أَوْ مِمَّا يُؤْذَنُ بِهِ التَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ: فَمَنِ اهْتَدى إِلَخْ. وَفَاءُ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ لِلتَّفْرِيعِ وَهُوَ تَفْرِيع ناشىء مِنْ مَعْنَى اللَّامِ. وَ (مَنْ) شَرْطِيَّةٌ، أَيْ مَنْ حَصَلَ مِنْهُ الِاهْتِدَاءُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنَّ اهْتِدَاءَهُ لِفَائِدَةِ

الصفحة 21