كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 24)

نَفْسِهِ لَا غَيْرُ، أَيْ لَيْسَتْ لَكَ مِنِ اهْتِدَائِهِ فَائِدَةٌ لِذَاتِكَ لِأَنَّ فَائِدَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَهِيَ شَرَفُهُ وأجره) ثَابِتَة عَن التَّبْلِيغِ سَوَاءٌ اهْتَدَى مَنِ اهْتَدَى وَضَلَّ مَنْ ضَلَّ.
وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ آخِرَ سُورَةِ يُونُسَ [108] ، وَفِي قَوْلِهِ: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّمْلِ [91، 92] ، وَلَكِنْ جِيءَ فِي تَيْنِكَ الْآيَتَيْنِ بِصِيغَةِ قَصْرِ الِاهْتِدَاءِ عَلَى نَفْسِ الْمُهْتَدِي وَتُرِكَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ تَيْنَكَ الْآيَتَيْنِ وَارِدَتَانِ بِالْأَمْرِ بِمُخَاطَبَةِ الْمُشْرِكِينَ فَكَانَ الْمَقَامُ فِيهِمَا مُنَاسِبًا لِإِفَادَةِ أَنَّ فَائِدَةَ اهْتِدَائِهِمْ لَا تَعُودُ إِلَّا لِأَنْفُسِهِمْ، أَيْ لَيْسَتْ لِي مَنْفَعَةٌ مِنِ اهْتِدَائِهِمْ، خِلَافًا لِهَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهَا خِطَابٌ مُوَجَّهٌ مِنَ اللَّهِ إِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ فِيهَا حَالُ مَنْ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْمُدِلِّ بِاهْتِدَائِهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها فَصِيغَةُ الْقَصْرِ فِيهِ لِتَنْزِيلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَسَفِهِ عَلَى ضَلَالِهِمُ الْمُفْضِي بِهِمْ إِلَى الْعَذَابِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَعُودُ عَلَيْهِ مِنْ ضَلَالِهِمْ ضُرٌّ، فَخُوطِبَ بِصِيغَةِ الْقَصْرِ، وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ. وَلِذَلِكَ اتَّحَدَتِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي الِاشْتِمَالِ عَلَى الْقَصْرِ بِالنِّسْبَةِ لِجَانِبِ ضَلَالِهِمْ فَإِنَّ قَوْلَهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [92] فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ فِي معنى: فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها، أَي لَيْسَ ضلالكم عليّ فَإِنَّمَا أَنا من الْمُنْذِرِينَ. وَهَذِهِ نُكَتٌ مِنْ دَقَائِقِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ.
وَقَوْلُهُ: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ القَوْل فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ فِي سُورَةِ يُونُس [108] . وَجُمْلَة ووَ مَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ أَيْ لَسْتَ مَأْمُورًا بِإِرْغَامِهِمْ عَلَى الِاهْتِدَاءِ، فَصِيغَ هَذَا الْخَبَرُ فِي جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ حُكْمِ هَذَا النَّفْي.

الصفحة 22