كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 25)

وَفِي قَوْلِهِ: مَا كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا تَسْجِيلٌ عَلَيْهِمْ بِالتَّلَجْلُجِ عَنِ الْحُجَّةِ الْبَيِّنَةِ، وَالْمَصِيرِ إِلَى سِلَاحِ الْعَاجِزِ مِنَ الْمُكَابَرَةِ وَالْخُرُوجِ عَنْ دَائِرَةِ الْبَحْثِ.
وَالْخِطَابُ بِفِعْلِ ائْتُوا مُوَجَّهٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِدُخُول الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وإِلَّا أَنْ قالُوا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ حُجَّتِهِمْ وَهُوَ يَقْتَضِي تَسْمِيَةَ كَلَامِهِمْ هَذَا حُجَّةً وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ إِذْ هُوَ بِالْبُهْتَانِ أَشْبَهُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُ اسْمِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ كَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ:
قَرَيْنَاكُمْ فَعَجَّلْنَا قِرَاكُمْ ... قُبَيْلَ الصُّبْحِ مِرْدَاةً طَحُونَا
فَسَمَّى الْقَتْلَ قِرًى، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا تَهَكُّمًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُ اسْمِ الْحُجَّةِ عَلَى كَلَامِهِمْ جَرَى عَلَى اعْتِقَادِهِمْ
وَتَقْدِيرِهِمْ دُونَ قَصْدِ تَهَكُّمٍ بِهِمْ، أَيْ أَتَوْا بِمَا تَوَهَّمُوهُ حُجَّةً فَيَكُونُ الْإِطْلَاقُ اسْتِعَارَةً صُورِيَّةً وَالِاسْتِثْنَاءُ عَلَى هَذَا مُتَّصِلٌ أَيْضًا. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْإِطْلَاقُ اسْتِعَارَةً بِعَلَاقَةِ الضِّدِّيَّةِ فَيَكُونُ مَجَازًا مُرْسَلًا بِتَنْزِيلِ التَّضَادِّ مَنْزِلَةَ التَّنَاسُبِ عَلَى قَصْدِ التَّهَكُّمِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ أَلْبَتَّةَ إِذْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ إِلَّا هَذِهِ، وَهَذِهِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ بَلْ هِيَ عِنَادٌ فَيَحْصُلُ أَنْ لَا حُجَّةَ لَهُم بطرِيق التمليح وَالْكِنَايَةِ كَقَوْلِ جِرَانِ الْعَوْدِ:
وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ ... إِلَّا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ
أَيْ لَا أُنْسَ بِهَا أَلْبَتَّةَ.
وَيُقَدَّرُ قَوْلُهُ: أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا فِي مَحَلِّ رَفْعٍ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمُفَرَّغِ عَلَى الِاعْتِبَارَاتِ الثَّلَاثَةِ فَهُوَ اسْمُ كانَ وحُجَّتَهُمْ خَبَرُهَا لِأَنَّ حُجَّتَهُمْ مَنْصُوبٌ فِي قِرَاءَةِ جَمِيعِ الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ.
وَتَقْدِيمُ خَبَرِ كانَ عَلَى اسْمِهَا لِأَنَّ اسْمَهَا مَحْصُورٌ بِ إِلَّا فَحَقُّهُ التَّأْخِيرُ عَن الْخَبَر.

الصفحة 364