كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 26)

وَجُمْلَةُ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِكَوْنِهِ أَعْلَمَ مِنْهُمْ بِكُنْهِ مَا يُفِيضُونَ فِيهِ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى تَفْوِيضِ الْحُكْمِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا تَهْدِيدٌ لَهُمْ وَتَحْذِيرٌ مِنَ الْخَوْضِ الْبَاطِلِ وَوَعِيدٌ.
وَالشَّهِيدُ: الشَّاهِدُ، أَيِ الْمُخْبِرُ بِالْوَاقِعِ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْحَاكِمُ بِمَا يَعْلَمُهُ مِنْ حَالِنَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَكُونُ بَيْنَ خَصْمَيْنِ وَلَا تَكُونُ الشَّهَادَةُ بَيْنَهُمَا بَلْ لِأَحَدِهِمَا قَالَ تَعَالَى: وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النِّسَاء: 41] .
وَإِجْرَاءُ وَصْفَيِ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ عَلَيْهِ تَعَالَى اقْتَضَاهُ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنَ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِطَلَبِ الْإِقْلَاعِ عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْخَوْض بِالْبَاطِلِ.
[9]

[سُورَة الْأَحْقَاف (46) : آيَة 9]
قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)
أُعِيدَ الْأَمْرُ بِأَنْ يَقُولَ مَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لِمَا عَلِمْتَ آنِفًا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْأَحْقَاف: 4] الْآيَاتِ. وَهَذَا جَوَابٌ عَمَّا تَضَمَّنَهُ قَوْلهم: افْتَراهُ [الْأَحْقَاف: 8] مِنْ إِحَالَتِهِمْ صِدْقَهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ إِحَالَةً دَعَتْهُمْ إِلَى نِسْبَة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ. وَإِنَّمَا لَمْ يُعْطَفْ عَلَى جُمْلَةِ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ [الْأَحْقَاف: 8] لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الِارْتِقَاءُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ مِنْ رَدٍّ إِلَى أَقْوَى مِنْهُ فَكَانَ هَذَا كَالتَّعَدُّدِ وَالتَّكْرِيرِ، وَسَيَأْتِي بَعْدَهُ قَوْلُهُ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ [الْأَحْقَاف: 10] . وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَا فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [81- 84] بَلْ قالُوا مِثْلَ مَا قالَ الْأَوَّلُونَ إِلَى قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَقَوْلُهُ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ [الْمُؤْمِنُونَ: 86] وَقَوْلُهُ:
قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ [الْمُؤْمِنُونَ: 88] إِلَخْ.
وَالْبِدْعُ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَسِكُونُ الدَّالِ، مَعْنَاهُ الْبَدِيعُ مِثْلُ: الْخِفِّ يَعْنِي الْخَفِيفَ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:

الصفحة 16