كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 26)

الْكُتُبِ عَلَى الرُّسُلِ، وَآمَنَ بِرِسَالَتِي كَيْفَ يَكُونُ انْحِطَاطُكُمْ عَنْ دَرَجَتِهِ، وَقَدْ جَاءَكُمْ كِتَابٌ فَأَعْرَضْتُمْ عَنْهُ، فَهَذَا كَقَوْلِهِ: أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ [الْأَنْعَام: 157] ، وَهَذَا تَحْرِيكٌ لِلْهِمَمِ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ آيَةُ سُورَةِ فُصِّلَتْ [52] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ سِوَى أَنَّ هَذِهِ أَقْحَمَ فِيهَا قَوْلَهُ: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانَتْ لَهُمْ مُخَالَطَةٌ مَعَ بَعْضِ الْيَهُودِ فِي مَكَّةَ وَلَهُمْ صِلَةٌ بِكَثِيرٍ مِنْهُمْ فِي التِّجَارَةِ بِالْمَدِينَةِ وَخَيْبَرَ فَلَمَّا ظَهَرَتْ دَعْوَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَسْأَلُونَ مَنْ لَقَوْهُ مِنَ الْيَهُودِ عَنْ أَمْرِ الْأَدْيَانِ وَالرُّسُلِ فَكَانَ الْيَهُودُ لَا مَحَالَةَ يُخْبِرُونَ الْمُشْرِكِينَ بِبَعْضِ الْأَخْبَارِ عَنْ رِسَالَةِ مُوسَى وَكِتَابِهِ وَكَيْفَ أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَى فِرْعَوْنَ. فَالْيَهُودُ وَإِنْ كَانُوا لَا يُقِرُّونَ
برسالة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ عَنْ رِسَالَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَا هُوَ ممائل لحَال النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قَوْمِهِ وَفِيهِ مَا يَكْفِي لِدَفْعِ إِنْكَارِهِمْ رِسَالَتَهُ.
فَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَرَأَيْتُمْ تَقْرِيرَيٌّ لِلتَّوْبِيخِ وَمَفْعُولَا أَرَأَيْتُمْ مَحْذُوفَانِ. وَالتَّقْدِيرُ:
أَرَأَيْتُمْ أَنْفُسَكُمْ ظَالِمِينَ. وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي إِنْ كانَ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ الْمَعْلُومِ مِنَ السِّيَاقِ أَوْ إِلَى مَا يُوحَى إِلَيَّ فِي قَوْلِهِ آنِفًا إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ [الْأَحْقَاف: 9] . وَجُمْلَةُ وَكَفَرْتُمْ بِهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ أَرَأَيْتُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى فِعْلِ الشَّرْطِ. وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ لِأَنَّ مَضْمُونَ كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ وَاقِعٌ فَلَا يَدْخُلُ فِي حَيِّزِ الشَّرْطِ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْجَدَلِ. وَالتَّقْدِيرُ:
أَفَتَرَوْنَ أَنْفُسَكُمْ فِي ضَلَالٍ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ جَوَابِ الشَّرْطِ الْمُقَدَّرَةِ وَهِيَ تَعْلِيلٌ أَيْضًا. وَالْمَعْنَى: أَتَظُنُّونَ إِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقُرْآنَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ وَقَدْ كَفَرْتُمْ بِذَلِكَ فَشَهِدَ شَاهد على حقّية ذَلِكَ تُوقِنُوا أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَهْدِكُمْ لِأَنَّكُمْ ظَالِمُونَ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الظَّالِمِينَ.
وَضَمِيرَا كانَ ومِثْلِهِ عَائِدَانِ إِلَى الْقُرْآنِ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ مَرَّاتٍ مِنْ قَوْلِهِ:
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ [الْأَحْقَاف: 2] وَقَوْلِهِ: ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا [الْأَحْقَاف: 4] .

الصفحة 19