كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 27)

وَالْمُرَادُ بِ مَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ: مَا لَا بَاعِثَ عَلَيْهِ إِلَّا الْمَيْلُ الشَّهْوَانِيُّ، دُونَ الْأَدِلَّةِ فَإِنْ كَانَ الشَّيْءُ الْمَحْبُوبُ قَدْ دَلَّتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَلَا يَزِيدُهُ حُبُّهُ إِلَّا قَبُولًا كَمَا
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَافْتَرَقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسَاجِدِ»
وَقَالَ: «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ»
. فَمَنَاطُ الذَّمِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ قَصْرُ اتِّبَاعِهِمْ عَلَى مَا تَهْوَاهُ أَنْفُسُهُمْ.
ثُمَّ إِنَّ لِلظَّنِّ فِي الْمُعَامَلَاتِ بَيْنَ النَّاسِ وَالْأَخْلَاقِ النَّفْسَانِيَّةِ أَحْكَامًا وَمَرَاتِبَ غَيْرَ مَا لَهُ فِي الدِّيَانَاتِ أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا، فَمِنْهُ مَحْمُودٌ وَمِنْهُ مَذْمُومٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَقيل: الحزم سُوءُ الظَّنِّ بِالنَّاسِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَنْفُسُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ وَمَا تَهْوَاهُ أَنْفُسُهُمْ وَمَا
مَوْصُولَةٌ.
وَعَطْفُ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ عَلَى الظَّنِّ عَطْفُ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ، أَيِ الظَّنُّ الَّذِي يَبْعَثهُم على إتباعه أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِهُدَاهِمْ وَإِلْفِهِمْ.
وَجُمْلَةُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى حَالِيَّةٌ مُقَرِّرَةٌ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ، أَيْ يَسْتَمِرُّونَ عَلَى اتِّبَاعِ الظَّنِّ وَالْهَوَى فِي حَالِ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا بِالْهُدَى.
وَلَامُ الْقَسَمِ لِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِيمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ كَأَنَّ الْمُخَاطَبَ يَشُكُّ فِي أَنَّهُ جَاءَهُمْ مَا فِيهِ هُدًى مُقْنِعٌ لَهُمْ مِنْ جِهَةِ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى ضَلَالِهِمُ اسْتِمْرَارًا لَا يُظَنُّ مِثْلُهُ بِعَاقِلٍ.
وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْجَلَالَةِ بِعُنْوَانِ رَبِّهِمُ لِزِيَادَةِ التَّعْجِيبِ مِنْ تَصَامُمِهِمْ عَنْ سَمَاعِ الْهُدَى مَعَ أَنَّهُ مِمَّنْ تَجِبُ طَاعَتُهُ فَكَانَ ضَلَالُهُمْ مَخْلُوطًا بِالْعِصْيَانِ وَالتَّمَرُّدِ عَلَى خَالِقِهِمْ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْهُدى لِلدِّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ، أَيِ الْهدى الْوَاضِح.

الصفحة 110