كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 27)

وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِمْ بِخَلْقٍ يُشَاهِدُونَ كَيْفِيَّاتِهِ وَأَطْوَارَهُ كُلَّمَا لَفَتُوا أَبْصَارَهُمْ، وَقَدَحُوا أَفْكَارَهُمْ، وَهُوَ خَلْقُ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى لِيَكُونَ مِنْهُمَا إِنْشَاءُ خَلْقٍ جَدِيدٍ يَخْلُفُ مَا سَلَفَهُ وَذَلِكَ أَقْرَبُ تَمْثِيلٍ لِإِنْشَاءِ الْخَلْقِ بَعْدَ الْفَنَاءِ. وَهُوَ الْبَعْثُ الَّذِي أَنْكَرُوهُ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ تُقَرَّبُ بِمَا هُوَ وَاضِحٌ مِنْ أَحْوَالِ أَمْثَالِهَا.
وَلِذَلِكَ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، أَيْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الْفُرُوقِ بَيْنَ الْمُمْكِنَاتِ وَالْمُسْتَحِيلَاتِ، وَتَتَفَكَّرُونَ فِي مَرَاتِبِ الْإِمْكَانِ فَلَا يَخْتَلِطَ عَلَيْكُمُ الِاسْتِبْعَادُ وَقِلَّةُ الِاعْتِيَادِ بِالِاسْتِحَالَةِ فَتَتَوَهَّمُوا الْغَرِيبَ مُحَالًا.
فَالتَّذَكُّرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِعَادَة التفكر فِي الْأَشْيَاء وَمُرَاجَعَةِ أَنْفُسِهِمْ فِيمَا أَحَالُوهُ لِيَعْلَمُوا بَعْدَ إِعَادَةِ النَّظَرِ أَنَّ مَا أَحَالُوهُ مُمْكِنٌ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَأْلَفُوهُ فَاشْتَبَهَ عَلَيْهِمُ الْغَرِيبُ بِالْمُحَالِ فَأَحَالُوهُ فَلَمَّا كَانَ تَجْدِيدُ التَّفَكُّرِ الْمَغْفُولِ عَنْهُ شَبِيهًا بِتَذَكُّرِ الشَّيْءِ الْمَنْسِيِّ أَطْلَقَ عَلَيْهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ [الْوَاقِعَة: 60- 62] فَقَدْ ذُيِّلَ هُنَالِكَ بِالْحَثِّ عَلَى التَّذَكُّرِ، كَمَا ذُيِّلَ هُنَا بِرَجَاءِ التَّذَكُّرِ، فَأَفَادَ أَنَّ خَلْقَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ هُوَ النَّشْأَةُ الْأُولَى وَأَنَّهَا الدَّالَّةُ عَلَى النَّشْأَةِ الْآخِرَةِ.
وَجُمْلَةُ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ أَيْ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِي الزَّوْجَيْنِ تَذَكُّرٌ لَكُمْ، أَيْ دَلَالَةٌ مَغْفُولٌ عَنْهَا. وَالْقَوْلُ فِي صُدُورِ الرَّجَاءِ مِنَ اللَّهِ مُبِينٌ عَنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فِي سُورَة الْبَقَرَة [52] .
[50، 51]

[سُورَة الذاريات (51) : الْآيَات 50 إِلَى 51]
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)
بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ ضَلَالَ هَؤُلَاءِ فِي تَكْذِيبِهِمْ بِالْبَعْثِ بَيَانًا بِالْبُرْهَانِ السَّاطِعِ، وَمَثَّلَ حَالَهُمْ بِحَالِ الْأُمَمِ الَّذِينَ سَلَفُوهُمْ فِي التَّكْذِيبِ بِالرُّسُلِ وَمَا جَاءُوا بِهِ جَمْعًا بَيْنَ الْمَوْعِظَةِ لِلضَّالِّينَ وَتَسْلِيَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَكَانَتْ فِيمَا مَضَى مِنَ الِاسْتِدْلَالِ

الصفحة 18