كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 27)

دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ مُتَفَرِّدٌ بِخَلْقِ الْعَالِمِ وَفِي ذَلِكَ إِبْطَالُ إِشْرَاكِهِمْ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى أَقْبَلَ عَلَى تَلْقِينِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَسْتَخْلِصُهُ لَهُمْ عَقِبَ ذَلِكَ بِأَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْحَقِّ بِقَوْلِهِ: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ فَالْجُمْلَةُ الْمُفَرَّعَةُ بِالْفَاءِ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ وَالتَّقْدِيرِ: فَقُلْ فِرُّوا، دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ فَإِنَّهُ كَلَامٌ لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنْ قَائِلٍ وَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ كَلَامَ مُبَلِّغٍ. وَحَذْفُ الْقَوْلِ كَثِيرُ الْوُرُودِ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ مِنْ ضُرُوبِ إِيجَازِهِ، فَالْفَاءُ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي يَقُولُهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُفَادُهَا التَّفْرِيعُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ مِمَّا تَقَدَّمَ. وَلَيْسَتْ مُفَرَّعَةَ فِعْلِ الْأَمْرِ الْمَحْذُوفِ لِأَنَّ الْمُفَرَّعَ بِالْفَاءِ هُوَ مَا يُذْكَرُ بَعْدَهَا.
وَقَدْ غُيِّرَ أُسْلُوبُ الْمَوْعِظَةِ إِلَى تَوْجِيه الْخطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ هَذِهِ الْمَوْعِظَةَ لِأَنَّ لِتَعَدُّدِ الْوَاعِظِينَ تَأْثِيرًا عَلَى نُفُوسِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْمَوْعِظَةِ.
وَالْأَنْسَبُ بِالسِّيَاقِ أَنَّ الْفِرَارَ إِلَى اللَّهِ مُسْتَعَارٌ لِلْإِقْلَاعِ عَنْ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْإِشْرَاكِ وَجُحُودُ الْبَعْثِ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ بِتَشْبِيهِ حَالِ تَوَرُّطِهِمْ فِي الضَّلَالَةِ بِحَالِ مَنْ هُوَ فِي مَكَانٍ مَخُوفٍ يَدْعُو حَالُهُ أَنْ يَفِرَّ مِنْهُ إِلَى مَنْ يُجِيرُهُ، وَتَشْبِيهُ حَالِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَالِ نَذِيرِ قَوْمٍ بِأَنَّ دِيَارَهُمْ عُرْضَةٌ لِغَزْوِ الْعَدُوِّ فَاسْتُعْمِلَ المركّب وَهُوَ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ فِي هَذَا التَّمْثِيل.
فالمواجه ب فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ فَرُّوا إِلَى اللَّهِ مِنَ الشِّرْكِ.
وَالْفِرَارُ: الْهُرُوبُ، أَيْ سُرْعَةُ مُفَارَقَةِ الْمَكَانِ تَجَنُّبًا لِأَذًى يَلْحَقُهُ فِيهِ فيعدي ب (من) الِابْتِدَائِيَّةِ لِلْمَكَانِ الَّذِي بِهِ الْأَذَى يُقَالُ: فَرَّ مِنْ بَلَدِ الْوَبَاءِ وَمِنَ الْمَوْتِ، وَالشَّيْءُ الَّذِي يُؤْذِي، يُقَالُ: فَرَّ مِنَ الْأَسَدِ وَفَرَّ مِنَ الْعَدُوِّ.
وَجُمْلَةُ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ تَعْلِيل لِلْأَمْرِ ب فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْغَايَةَ مِنَ الْإِنْذَارِ قَصْدُ السَّلَامَةِ مِنَ الْعِقَابِ فَصَارَ الْإِنْذَارُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ تَعْلِيلًا لِلْأَمْرِ بِالْفِرَارِ إِلَى اللَّهِ، أَيِ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَحْدَهُ.

الصفحة 19