كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 27)

عَطَفَ الْغَرَضَ عَلَى الْغَرَضِ لِوُجُودِ الْمُنَاسَبَةِ.
فَبَعْدَ أَنْ نَظَّرَ حَالَهُمْ بِحَالِ الْأُمَمِ الَّتِي صَمَّمَتْ عَلَى التَّكْذِيبِ مِنْ قَبْلِهِمْ أَعْقَبَهُ بِذِكْرِ شَنِيعِ حَالِهِمْ مِنَ الِانْحِرَافِ عَمَّا خُلِقُوا لِأَجْلِهِ وَغُرِزَ فِيهِمْ.
فَقَوْلُهُ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْرِيضِ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ انْحَرَفُوا عَنِ الْفِطْرَةِ الَّتِي خُلِقُوا عَلَيْهَا فَخَالَفُوا سُنَّتَهَا اتِّبَاعًا لِتَضْلِيلِ الْمُضِلِّينَ.
وَالْجِنُّ: جِنْسٌ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ مُسْتَتِرٌ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ وَهُوَ جِنْسٌ شَامِلٌ لِلشَّيَاطِينِ قَالَ تَعَالَى عَنْ إِبْلِيسَ: كانَ مِنَ الْجِنِّ [الْكَهْف: 50] .
وَالْإِنْسُ: اسْمُ جَمْعٍ وَاحِدُهُ إِنْسِيٌّ بِيَاءِ النِّسْبَة إِلَى اسْم جَمْعِهِ.
وَالْمَقْصُود من هَذَا الْإِخْبَارِ هُوَ الْإِنْسُ وَإِنَّمَا ذُكِرَ الْجِنُّ إِدْمَاجًا وَسَتَعْرِفُ وَجْهَ ذَلِكَ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ مِنْ عِلَلٍ مَحْذُوفَةٍ عَامَّةٍ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُفَرَّغِ.
وَاللَّامُ فِي لِيَعْبُدُونِ لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ مَا خَلَقْتُهُمْ لِعِلَّةٍ إِلَّا عِلَّةَ عِبَادَتِهِمْ إِيَّايَ.
وَالتَّقْدِيرُ: لِإِرَادِتِي أَنْ يَعْبُدُونِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ قَوْلُهُ فِي جُمْلَةِ الْبَيَانِ: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ.
وَهَذَا التَّقْدِيرُ يُلَاحَظُ فِي كُلِّ لَامٍ تَرِدُ فِي الْقُرْآنِ تَعْلِيلًا لِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ مَا أَرْضَى لِوُجُودِهِمْ إِلَّا أَنْ يَعْتَرِفُوا لِي بِالتَّفَرُّدِ بِالْإِلَهِيَّةِ.
فَمَعْنَى الْإِرَادَة هُنَا: الرضى وَالْمَحَبَّةُ، وَلَيْسَ مَعْنَاهَا الصِّفَةَ الْإِلَهِيَّةَ الَّتِي تُخَصِّصُ الْمُمْكِنَ بِبَعْضِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ عَلَى وَفْقِ الْعِلْمِ، الَّتِي اشتق مِنْهَا اسْمُهُ تَعَالَى: «الْمُرِيدُ» لِأَنَّ إِطْلَاقَ الْإِرَادَةِ عَلَى ذَلِكَ إِطْلَاقٌ آخَرُ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا تَعْلِيلَ تَصَرُّفَاتِ الْخَلْقِ النَّاشِئَةِ عَنِ اكْتِسَابِهِمْ عَلَى اصْطِلَاحِ الْأَشَاعِرَةِ، أَوْ عَنْ قُدْرَتِهِمْ عَلَى اصْطِلَاحِ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى تَقَارُبِ مَا بَيْنَ الِاصْطِلَاحَيْنِ لِظُهُورِ أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْخَلْقِ قَدْ تَكُونُ مُنَاقِضَةً لِإِرَادَةِ اللَّهِ مِنْهُمْ بِمَعْنَى الْإِرَادَةِ الصِّفَةِ، فَاللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ النَّاسَ

الصفحة 25