كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 27)

وَتُشَبَّهُ الْأُمَمُ الْمَاضِيَةُ بِجَمَاعَةٍ سَبَقَتْهُمْ لِلْمَاءِ، وَيُشَبَّهُ نَصِيبُ كُلِّ جَمَاعَةٍ بِالدَّلْوِ الَّتِي يَأْخُذُونَهَا مِنَ الْمَاءِ.
قَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبْدَةَ يَمْدَحُ الْمَلِكَ الْحَارِثَ بْنَ أَبِي شِمْرٍ، وَيَشْفَعُ عِنْدَهُ لِأَخِيهِ شَأْسِ بْنِ عَبْدَةَ وَكَانَ قَدْ وَقَعَ فِي أَسْرِهِ مَعَ بَنِي تَمِيمٍ يَوْمَ عَيْنِ أَبَاغٍ:
وَفِي كُلِّ حَيٍّ قَدْ خَبَطْتَ بِنِعْمَةٍ ... فَحُقَّ لِشَأْسٍ مِنْ نَدَاكَ ذَنُوبُ
فَلَمَّا سَمِعَهُ الْمَلِكُ قَالَ: «نَعَمْ وَأَذْنِبَةٌ» وَأَطْلَقَ لَهُ أَخَاهُ شَأْسَ بْنَ عَبْدَةَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَسْرَى تَمِيمٍ، وَهَذَا تَسْلِيَة لنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَقْصُودُ: أَنْ يَسْمَعَهُ الْمُشْرِكُونَ فَهُوَ تَعْرِيضٌ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ أكد الْخَبَر ب (إنّ) لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُكَذِّبِينَ بِالْوَعِيدِ، وَلِذَلِكَ فُرِّعَ على التَّأْكِيد قَالَ:
فَلا يَسْتَعْجِلُونِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَعْجِلُونَ بِالْعَذَابِ اسْتِهْزَاءً وَإِشْعَارًا بِأَنَّهُ وَعْدٌ مَكْذُوبٌ فِي الْوَاقِعِ يَسْتَعْجِلُونَ اللَّهَ تَعَالَى بِوَعِيدِهِ.
وَعُدِّيَ الِاسْتِعْجَالُ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ وَهُمْ إِنَّمَا اسْتَعْجَلُوهُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِظْهَارِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخْبِرٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى تَوْبِيخًا لَهُمْ وَإِنْذَارًا بِالْوَعِيدِ. وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمُ لِلتَّخْفِيفِ.
وَالنَّهْيُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهَكُّمِ إِظْهَارًا لِغَضَبِ الله عَلَيْهِم.
[60]

[سُورَة الذاريات (51) : آيَة 60]
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
فُرِّعَ عَلَى وَعِيدِهِمْ إِنْذَارٌ آخَرُ بِالْوَيْلِ، أَوْ إِنْشَاءُ زَجْرٍ.
وَالْوَيْلُ: الشَّرُّ وَسُوءُ الْحَالِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [79] ، وَتَنْكِيرُهُ لِلتَّعْظِيمِ.
وَالْكَلَامُ يَحْتَمِلُ الْإِخْبَارَ بِحُصُولِ وَيْلٍ، أَيْ عَذَابٌ وَسُوءُ حَالٍ لَهُمْ يَوْمَ أُوعِدُوا بِهِ، وَيَحْتَمِلُ إِنْشَاءَ الزَّجْرِ وَالتَّعْجِيبِ مِنْ سُوءِ حَالِهِمْ فِي يَوْمٍ أُوعِدُوهُ.
وَ (مِنْ) لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ، أَيْ سُوءُ حَالٍ بِتَرَقُّبِهِمْ عَذَابًا آتِيًا مِنَ الْيَوْم الَّذِي أعدوه.

الصفحة 31