كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 27)

وَأَقْرَضُوا اللَّهَ
قَرْضاً حَسَناً
مِنْ عَطْفِ الْمُرَادِفِ فِي الْمَعْنَى لِمَا فِي الْمَعْطُوفِ مِنْ تَشْبِيهِ فِعْلِهِمْ بِقَرْضٍ لِلَّهِ تَنْوِيهًا بِالصَّدَقَاتِ.
وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِتَخْفِيفِ الصَّادِ عَلَى أَنَّهُ مِنَ التَّصْدِيقِ، أَيِ الَّذِينَ صَدَّقُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ آمَنُوا وَامْتَثَلُوا أَمْرَهُ فَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُضاعَفُ لَهُمْ بِأَلِفٍ بَعْدَ الضَّادِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ يُضَعَّفُ بِدُونِ أَلِفٍ وَبِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ.
وَعَطَفَ وَأَقْرَضُوا وَهُوَ جُمْلَةٌ عَلَى الْمُصَّدِّقِينَ وَهُوَ مُفْرَدٌ لِأَنَّ الْمُفْرَدَ فِي حُكْمِ الْفِعْلِ حَيْثُ كَانَتِ اللَّامُ فِي مَعْنَى الْمَوْصُولِ فَقُوَّةُ الْكَلَامِ: إِنَّ الَّذِينَ اصَّدَّقُوا وَاللَّائِي تَصَدَّقْنَ وَأَقْرَضُوا، عَلَى التَّغْلِيبِ وَلَا فَصْلَ بِأَجْنَبِيٍّ عَلَى أَنَّ الْفَصْلَ لَا يُمْنَعُ إِذَا لَمْ يُفْسِدِ الْمَعْنَى.
وَوَجْهُ الْعُدُولِ عَنْ تَمَاثُلِ الصِّلَتَيْنِ فَلَمْ يَقُلْ: إِنَّ الْمُصَدِّقِينَ وَالْمُقْرِضِينَ، هُوَ تَصْوِيرُ مَعْنَى كَوْنِ التَّصَدُّقِ إِقْرَاضًا لِلَّهِ.
وَتَقَدَّمَ مَعْنَى يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ فِي قَوْلِهِ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ [الْحَدِيد: 11] الْآيَةَ.
[19]

[سُورَة الْحَدِيد (57) : آيَة 19]
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ.
لَمَّا ذُكِرَ فَضْلُ الْمُتَصَدِّقِينَ وَكَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ لَا مَالَ لَهُ لِيَتَصَدَّقَ مِنْهُ أَعْقَبَ ذِكْرَ الْمُتَصَدِّقِينَ بِبَيَانِ فَضْلِ الْمُؤْمِنِينَ مُطْلَقًا، وَهُوَ شَامِلٌ لِمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَصَدَّقَ وَمَنْ لَا يَسْتَطِيعُ عَلَى نَحْوِ التَّذْكِيرِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى [النِّسَاء: 95] .
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ قَوْمًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ وَلَا أَمْوَالَ لنا، فَقَالَ: أَو لَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ مَا تَصَدَّقُونَ بِهِ، إِنَّ لَكُمْ فِي كُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٍ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةً، وَنَهْيٍ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةً» .

الصفحة 396