كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 27)

إِلَى قَوْلِهِ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً فِي سُورَةِ النَّبَإِ [31- 35] .
وَاللَّغْوُ: سَقَطُ الْكَلَامِ وَالْهَذَيَانُ الَّذِي يَصْدُرُ عَنْ خَلَلِ الْعَقْلِ.
وَالتَّأْثِيمُ: مَا يُؤْثَمُ بِهِ فَاعِلُهُ شَرْعًا أَوْ عَادَةً مِنْ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ مِثْلِ الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ وَتَمْزِيقِ الثِّيَابِ وَمَا يُشْبِهُ أَفْعَالَ الْمَجَانِينِ مِنْ آثَارِ الْعَرْبَدَةِ مِمَّا لَا يَخْلُو عَنْهُ النَّدَامَى غَالِبًا، فَأَهْلُ الْجَنَّةِ مُنَزَّهُونَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ لِأَنَّهُمْ مِنْ عَالَمِ الْحَقَائِقِ وَالْكَمَالَاتِ فَهُمْ حُكَمَاءُ عُلَمَاءُ، وَقَدْ تَمَدَّحَ أَصْحَابُ الْأَحْلَامِ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ بِالتَّنَزُّهِ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنِ اتَّقَى مَا يَعْرِضُ مِنَ الْفَلَتَاتِ فَحَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ الْخَمْرَ مِثْلَ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ بِرَفْعِهِمَا عَلَى أَنَّ (لَا) مشبهّة ب (لَيْسَ) . وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِفَتْحِهِمَا عَلَى أَنَّ (لَا) مشبهة ب (إنّ) وَهُمَا وَجْهَانِ فِي نَفْيِ النَّكِرَةِ إِذَا كَانَتْ إِرَادَةُ الْوَاحِدِ غَيْرَ مُحْتَمَلَةٍ وَمِثْلُهُ قَوْلُهَا فِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ: «زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَةَ لَا حَرَّ وَلَا قَرَّ وَلَا مَخَافَةَ وَلَا سَآمَةَ» رُوِيَتِ النَّكِرَاتُ الْأَرْبَعُ بِالرَّفْع وَبِالنَّصبِ.
[24]

[سُورَة الطّور (52) : آيَة 24]
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24)
عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً [الطّور: 23] فَهُوَ مِنْ تَمَامِهِ وَوَاقِعٌ مَوْقِعَ الْحَالِ مِثْلَهُ، وَجِيءَ بِهِ فِي صِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدِّلَالَةِ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالتَّكَرُّرِ، أَيْ ذَلِكَ لَا يَنْقَطِعُ بِخِلَافِ لَذَّاتِ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا لَا بُدَ لَهَا مِنَ الِانْقِطَاعِ بِنِهَايَاتٍ تَنْتَهِي إِلَيْهَا فَتُكْرَهُ لِأَصْحَابِهَا الزِّيَادَةُ مِنْهَا مِثْلِ الْغَوْلِ، وَالْإِطْبَاقِ، وَوَجَعِ الْأَمْعَاءِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ وَمِثْلِ الشَّبَعِ فِي تَنَاوُلِ الطَّعَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا يُورِثُ الْعَجْزَ عَن الازدياد عَنِ اللَّذَّةِ وَيَجْعَلُ الِازْدِيَادَ أَلَمًا.
وَلَمْ يُسْتَثْنَ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا لَذَّاتُ الْمَعَارِفِ وَلَذَّاتُ الْمَنَاظِرِ الْحَسَنَةِ وَالْجَمَالِ.
وَلَمَّا أَشْعَرَ فِعْلُ يَطُوفُ بِأَنَّ الْغِلْمَانَ يُنَاوِلُونَهُمْ مَا فِيهِ لَذَّاتُهُمْ كَانَ مُشْعِرًا بِتَجَدُّدِ الْمُنَاوَلَةِ وَتَجَدُّدِ الطَّوَافِ وَقَدْ صَارَ كُلُّ ذَلِكَ لَذَّةً لَا سَآمَةَ مِنْهَا.

الصفحة 54