كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 27)

وَلَامُ الْأَمْرِ فِي فَلْيَأْتُوا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي أَمْرِ التَّعْجِيزِ كَقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ قَول إِبْرَاهِيم فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ [الْبَقَرَة: 258] .
وَقَوْلُهُ: إِنْ كانُوا صادِقِينَ أَيْ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُ تَقَوَّلَهُ، أَيْ فَإِنَّ لَمْ يَأْتُوا بِكَلَامٍ مِثْلِهِ فَهُمْ كَاذِبُونَ. وَهَذَا إِلْهَابٌ لِعَزِيمَتِهِمْ لِيَأْتُوا بِكَلَامٍ مِثْلِ الْقُرْآنِ لِيَكُونَ عَدَمُ إِتْيَانِهِمْ بِمِثْلِهِ حُجَّةً عَلَى كَذِبِهِمْ وَقَدْ أَشْعَرَ نَظْمُ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ الْوَاقِعِ مَوْقِعًا شَبِيهًا بِالتَّذْيِيلِ وَالْمَخْتُومِ بِكَلِمَةِ الْفَاصِلَةِ، أَنَّهُ نِهَايَةُ غَرَضٍ وَأَنَّ مَا بَعْدَهُ شُرُوعٌ فِي غَرَضٍ آخَرَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظْمِ قَوْلِهِ: قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ [الطّور:
31] .
[35، 36]

[سُورَة الطّور (52) : الْآيَات 35 إِلَى 36]
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36)
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ.
إِضْرَابٌ انْتِقَالِيٌّ إِلَى إِبْطَالِ ضَرْبٍ آخَرَ مِنْ شُبْهَتِهِمْ فِي إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ، وَقَدْ عَلِمْتَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ أَنَّ مِنْ أَغْرَاضِهَا إِثْبَاتُ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ عَلَى أَنَّ مَا جَاءَ بَعْدَهُ مِنْ وَصْفِ يَوْمِ الْجَزَاءِ وَحَالِ أَهْلِهِ قَدِ اقْتَضَتْهُ مُنَاسَبَاتٌ نَشَأَتْ عَنْهَا تِلْكَ التَّفَاصِيلُ، فَإِذْ وُفِّيَ حَقُّ مَا اقتضته تِلْكَ المناسبات ثُنِّيَ عِنَانُ الْكَلَامِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَإِبْطَالِ شُبْهَتِهِمُ الَّتِي تَعَلَّلُوا بِهَا مِنْ نَحْو قَوْلهم: أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً [الْإِسْرَاء: 49] .
فَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ الْآيَاتِ أَدِلَّةٌ عَلَى أَنَّ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ أَعْظَمُ مِنْ إِعَادَةِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ. وَهَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ آنِفًا إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ [الطّور: 7] لِأَنَّ شُبْهَتَهُمُ الْمَقْصُودَ رَدُّهَا بِقَوْلِهِ: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ هِيَ قَوْلهم: أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الْإِسْرَاء: 49] ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
فَحَرْفُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلِابْتِدَاءِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ الْمُقَدَّرِ بَعْدَ (أَمْ) تَقْرِيرِيًّا. وَالْمَعْنَى: أَيُقِرُّونَ أَنَّهُمْ خُلِقُوا بَعْدَ أَنْ كَانُوا عَدَمًا فَكُلَّمَا خُلِقُوا مِنْ عَدَمٍ فِي نشأتهم الأولى ينشأون مِنْ عَدَمٍ فِي النَّشْأَةِ الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ إِثْبَاتٌ لِإِمْكَانِ
الْبَعْثِ، فَيَكُونُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ [الطارق: 5- 8]

الصفحة 67