كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 27)

أَغْرَبَ مِنْ إِيجَادِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ، فَمَا كَانَ إِنْكَارُهُمْ إِيَّاهُ إِلَّا عَنْ مُكَابَرَةٍ وتصميم على الْكفْر.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْأَمْرَ لَا هَذَا وَلَا ذَلِك وَلَكِنَّهُمْ لَا يُوقِنُونَ بِالْبَعْثِ فَهُمْ يُنْكِرُونَهُ بِدُونِ حُجَّةٍ وَلَا شُبْهَةٍ بَلْ رَانَتِ الْمُكَابَرَةُ على قُلُوبهم.
[37]

[سُورَة الطّور (52) : آيَة 37]
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37)
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ.
انْتِقَال بِالْعودِ إِلَى رَدِّ جُحُودِهِمْ رِسَالَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِذَلِكَ غُيِّرَ أُسْلُوبُ الْإِخْبَارِ فِيهِ إِلَى مُخَاطَبَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ الْأَصْلُ الَّذِي رَكَّزُوا عَلَيْهِ جُحُودَهُمْ تَوَهُّمَ أَنَّ اللَّهَ لَوْ أَرْسَلَ رَسُولًا
مِنَ الْبَشَرِ لَكَانَ الْأَحَقُّ بِالرِّسَالَةِ رَجُلًا عَظِيمًا مِنْ عُظَمَاءِ قَوْمِهِمْ كَمَا حَكَى الله عَنْهُم:
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا [ص: 8] وَقَالَ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] يَعَنُونُ قَرْيَةَ مَكَّةَ وَقَرْيَةَ الطَّائِفِ.
وَالْمَعْنَى: إِبْطَالُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ تصرف فِي شؤون الرُّبُوبِيَّةِ فَيَجْعَلُوا الْأُمُورَ عَلَى مَشِيئَتِهِمْ كَالْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ وَالْمُدَبِّرِ فِيمَا وُكِّلَ عَلَيْهِ، فَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ بِتَنْزِيلِهِمْ فِي إِبْطَالِ النُّبُوءَةِ عَمَّنْ لَا يَرْضَوْنَهُ مَنْزِلَةَ مَنْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ اللَّهِ يَخْلَعُونَ الْخِلَعَ مِنْهَا على من يشاؤون وَيمْنَعُونَ من يشاؤون.
وَالْخَزَائِنُ: جَمْعُ خَزِينَةٍ وَهِيَ الْبَيْتُ، أَوِ الصُّنْدُوقُ الَّذِي تُخَزَّنُ فِيهِ الْأَقْوَاتُ، أَوِ الْمَالُ وَمَا هُوَ نَفِيسٌ عِنْدَ خَازِنِهِ، وَتَقَدَّمُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ [يُوسُف: 55] . وَهِيَ هُنَا مُسْتَعَارَةٌ لِمَا فِي عِلْمِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ مِنْ إِعْطَاءِ الْغَيْر للمخلوقات، وَمِنْه اصْطِفَاءُ مَنْ هَيَّأَهُ مِنَ النَّاسِ لِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ عَنْهُ إِلَى الْبَشَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [50] قَوْلُهُ: قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالاته [الْأَنْعَام: 124] . وَقَالَ: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الْقَصَص: 68] .
وَقَدْ سُلِكَ مَعَهُمْ هُنَا مَسْلَكَ الْإِيجَازِ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِإِحَالَتِهِمْ عَلَى مُجْمَلٍ أَجْمَلَهُ قَوْلُهُ:
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ، لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ غَضَبٍ عَلَيْهِمْ لِجُرْأَتِهِمْ عَلَى

الصفحة 70