كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 27)

فَالْوَجْهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ زَيْنِ الْمَشَائِخِ أَوْ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ «الْمُقْتَبَسِ» أَوْ مِنْ كَلَامِ الطِّيبِيِّ، وَهُوَ وَجِيهٌ وَهُوَ أَصْلُ مَا بَنَيْنَا عَلَيْهِ مَوْقِعَ إِذا هُنَا، وَلَيْسَ تَرَدُّدُ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي الْجَوَابِ إِلَّا لِأَنَّهُ يَلْتَزِمُ أَنْ يَكُونَ إِذا ظَرْفًا لِلْمُسْتَقْبَلِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى كَلَامِهِ فِي «الْمُفَصَّلِ» مَعَ أَنَّ خُرُوجَهَا عَن ذَلِك كثير كَمَا تَوَاطَأَتْ عَلَيْهِ أَقْوَالُ الْمُحَقِّقِينَ.
وَالْهُوِيُّ: السُّقُوطُ، أُطْلِقَ هُنَا عَلَى غُرُوبِ الْكَوْكَبِ، اسْتُعِيرَ الْهُوِيُّ إِلَى اقْتِرَابِ اخْتِفَائِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْهُوِيِّ: سُقُوطُ الشِّهَابِ حِينَ يَلُوحُ لِلنَّاظِرِ أَنَّهُ يَجْرِي فِي أَدِيمِ السَّمَاءِ، فَهُوَ هُوِيٌّ حَقِيقِيٌّ فَيَكُونُ قَدِ اسْتُعْمِلَ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ.
وَفِي ذِكْرِ إِذا هَوى احْتِرَاسٌ مِنْ أَنْ يُتَوَهَّمَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ فِي الْقَسَمِ بِالنَّجْمِ إِقْرَارًا لِعِبَادَةِ نَجْمِ الشِّعْرَى، وَأَنَّ الْقَسَمَ بِهِ اعْتِرَافٌ بِأَنَّهُ إِلَهٌ إِذْ كَانَ بَعْضُ قَبَائِلِ الْعَرَبِ يَعْبُدُونَهَا فَإِنَّ حَالَةَ الْغُرُوبِ الْمُعَبَّرَ عَنْهَا بِالْهَوَى حَالَةُ انْخِفَاضٍ وَمَغِيبٍ فِي تَخَيُّلِ الرَّائِي لِأَنَّهُمْ يَعُدُّونَ طُلُوعَ النَّجْمِ أَوْجًا لِشَرَفِهِ وَيَعُدُّونَ غُرُوبَهُ حَضِيضًا، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الْأَنْعَام: 76] .
وَمِنْ مُنَاسَبَاتِ هَذَا يَجِيءُ قَوْلُهُ: وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى فِي هَذِهِ السُّورَةِ [49] ، وَتِلْكَ اعْتِبَارَاتٌ لَهُمْ تَخَيُّلِيَّةٌ شَائِعَةٌ بَيْنَهُمْ فَمِنَ النَّافِعِ مَوْعِظَةُ النَّاسِ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَافٍ فِي إِقْنَاعِهِمْ وُصُولًا إِلَى الْحَقِّ.
فَيَكُونُ قَوْلُهُ: إِذا هَوى إِشْعَارًا بِأَنَّ النُّجُومَ كُلَّهَا مُسَخَّرَةٌ لِقُدْرَةِ اللَّهِ مَسِيرَةٍ فِي نِظَامٍ أَوْجَدَهَا عَلَيْهِ وَلَا اخْتِيَارَ لَهَا فَلَيْسَتْ أَهْلًا لِأَنْ تُعْبَدَ فَحَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْقَسَمِ بِمَا فِيهَا مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ مَعَ الِاحْتِرَاسِ عَنِ اعْتِقَادِ عِبَادَتِهَا.
وَقَالَ الرَّاغِبُ: قِيلَ أَرَادَ بذلك أَي ب النَّجْمِ الْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ الْمُنَجَّمَ قَدْرًا فَقَدْرًا، وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: هَوى نُزُولَهُ اه.
ومناسبة الْقسم ب النَّجْمِ إِذا هَوى، أَنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ لِإِثْبَاتِ أَنَّ الْقُرْآنَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ مُنَزَّلٌ مِنَ السَّمَاءِ فَشَابَهَ حَالُ نُزُولِهِ الِاعْتِبَارِيِّ حَالَ النَّجْمِ فِي حَالَةِ هُوِيِّهِ مُشَابَهَةً تَمْثِيلِيَّةً حَاصِلَةً مِنْ نُزُولِ شَيْءٍ مُنِيرٍ إِنَارَةً مَعْنَوِيَّةً نَازِلٍ مِنْ مَحَلِّ رِفْعَةٍ

الصفحة 91