كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 28)

ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
أَيْ هَذَا حُكْمُ اللَّهِ، وَهُوَ عَدْلٌ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ بِأحد جانبيه وَيتْرك الْآخَرِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: لَوْلَا الْعَهْدُ لَأُمْسِكَ النِّسَاءُ وَلَمْ يُرَدُّ إِلَى أَزْوَاجِهِمْ صَدَاقٌ. وَجُمْلَةُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَجُوزُ كَوْنُهَا حَالًا مِنَ اسْمِ الْجَلَالَةِ أَوْ حَالًا مِنْ حُكْمُ اللَّهِ مَعَ تَقْدِيرِ ضَمِيرٍ يَرْبِطُ الْجُمْلَةَ بِصَاحِبِ الْحَالِ تَقْدِيرُهُ: يَحْكُمُهُ بَيْنَكُمْ، وَأَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ تَذْيِيلٌ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ هَذَا حُكْمٌ يَقْتَضِيهِ عِلْمُ اللَّهِ بِحَاجَاتِ عِبَادِهِ وَتَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ إِذْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ.
وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ الَّتِي فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنَ التَّرَادِّ فِي الْمُهُورِ شَرْعًا فِي أَحْوَالٍ مَخْصُوصَةٍ اقْتَضَاهَا اخْتِلَاطُ الْأَمْرِ بَيْنَ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ مِنْ عَهْدِ الْمُهَادِنَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ فِي أَوَائِلِ أَمْرِ الْإِسْلَامِ خَاصًّا بِذَلِكَ الزَّمَانِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالَهُ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَالْقُرْطُبِيُّ وَأَبُو بكر الْجَصَّاص.
[11]

[سُورَة الممتحنة (60) : آيَة 11]
وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
عَطْفٌ على جملَة وَسْئَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ [الممتحنة: 10] فَإِنَّهَا لَمَّا تَرَتَّبَ عَلَى نُزُولِهَا إِبَاءُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَنْ يَرُدُّوا إِلَى أَزوَاج النِّسَاء اللاء بَقَيْنَ عَلَى الْكفْر بِمَكَّة واللاء فَرَرْنَ مِنْ الْمَدِينَةِ وَالْتَحَقْنَ بِأَهْلِ الْكفْر بِمَكَّة مهورهن الَّتِي كَانُوا أَعْطَوْهَا نِسَاءَهُمْ، عُقِّبَتْ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِتَشْرِيعِ رَدِّ تِلْكَ الْمُهُورِ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ.
رُوِيَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَتَبُوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ يُعْلِمُونَهُمْ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ التَّرَادِّ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى: وَسْئَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا مَا أَنْفَقُوا [الممتحنة: 10] .
فَامْتَنَعَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ دَفْعِ مُهُورِ النِّسَاءِ اللَّاتِي ذَهَبَتْ إِلَيْهِمْ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ الْآيَةَ.

الصفحة 161