كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 28)

إِسْرَائِيلَ وَكَفْرَ بَعْضُ وَإِنَّمَا اسْتَجَابَ لَهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَدَدٌ قَلِيلٌ فَقَدْ جَاءَ فِي إِنْجِيلِ (لُوقَا) أَنَّ أَتْبَاعَ عِيسَى كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ التَّوْطِئَةُ لِقَوْلِهِ:
فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ وَالتَّأْيِيدُ النَّصْر وَالتَّقْوِيَةُ، أَيَّدَ اللَّهُ أَهْلَ النَّصْرَانِيَّةِ بِكَثِيرٍ مِمَّنِ اتَّبَعَ النَّصْرَانِيَّةَ بِدَعْوَةِ الْحَوَارِيِّينَ وَأَتْبَاعِهِمْ مِثْلَ بُولِسَ.
وَإِنَّمَا قَالَ: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَقُلْ: فَأَيَّدْنَاهُمْ لِأَنَّ التَّأْيِيدَ كَانَ لِمَجْمُوعِ الْمُؤْمِنِينَ بِعِيسَى لَا لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْهُمْ إِذْ قَدْ قُتِلَ مِنْ أَتْبَاعِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَمُثِّلَ بِهِمْ وَأُلْقُوا إِلَى السِّبَاعِ فِي الْمَشَاهِدِ الْعَامَّةِ تَفْتَرِسُهُمْ، وَكَانَ مِمَّنْ قُتِلَ مِنَ الْحَوَارِيِّينِ الْحَوَارِيُّ الْأَكْبَرُ الَّذِي سَمَّاهُ عِيسَى بُطْرُسَ، أَيِ الصَّخْرَةَ فِي ثَبَاتِهِ فِي اللَّهِ.
وَيَزْعُمُونَ أَنَّ جُثَّتَهُ فِي الْكَنِيسَةِ الْعُظْمَى فِي رُومَةَ الْمَعْرُوفَةُ بِكَنِيسَةِ الْقِدِّيسِ بُطْرُسَ وَالْحُكْمُ عَلَى الْمَجْمُوعِ فِي مِثْلِ هَذَا شَائِعٌ كَمَا تَقُولُ: نَصَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ مَعَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ. وَالْمَقْصُودُ نَصْرُ الدِّينِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ وَعْدُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ أُمِرُوا أَن يَكُونُوا أنصارا لله بِأَنَّ اللَّهَ مُؤَيِّدُهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ.
وَالْعَدُوُّ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، قَالَ تَعَالَى: وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ [الْكَهْف: 50] وَتَقَدَّمَ
عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ فِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ [1] .
وَالظَّاهِرُ: هُوَ الْغَالِبُ، يُقَالُ: ظَهَرَ عَلَيْهِ، أَيْ غَلَبَهُ، وَظَهَرَ بِهِ أَيْ غَلَبَ بِسَبَبِهِ، أَيْ بِإِعَانَتِهِ وَأَصْلُ فِعْلِهِ مُشْتَقٌّ مِنَ الِاسْمِ الْجَامِدِ. وَهُوَ الظَّهْرُ الَّذِي هُوَ الْعَمُودُ الْوَسَطُ مِنْ جَسَدِ الْإِنْسَانِ وَالدَّوَابِّ لِأَنَّ بِالظَّهْرِ قُوَّةَ الْحَيَوَانِ. وَهَذَا مِثْلُ فِعْلِ (عَضَدَ) مُشْتَقًّا مِنَ الْعَضُدِ. وَ (أَيَّدَ) مُشْتَقًّا مِنَ الْيَدِ وَمِنْ تَصَارِيفِهِ ظَاهَرَ عَلَيْهِ وَاسْتَظْهَرَ وَظَهِيرٌ لَهُ قَالَ تَعَالَى: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ [التَّحْرِيم: 4] . فَمَعْنَى ظاهِرِينَ أَنَّهُمْ مَنْصُورُونَ لِأَنَّ عَاقِبَةَ النَّصْرِ كَانَتْ لَهُمْ فَتَمَكَّنُوا مِنَ الْحُكْمِ فِي الْيَهُودِ الْكَافِرِينَ بِعِيسَى وَمَزَّقُوهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ.

الصفحة 203