كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 28)

بَعْضِهِمْ: افْتَخَرَ الْيَهُودُ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ.
وَالْعَرَبُ لَا كِتَابَ لَهُمْ. فَأَبْطَلَ اللَّهُ ذَلِكَ بِشَبَهِهِمْ بِالْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا.
وَمَعْنَى حُمِّلُوا: عُهِدَ بِهَا إِلَيْهِمْ وَكُلِّفُوا بِمَا فِيهَا فَلَمْ يَفُوا بِمَا كُلِّفُوا، يُقَالُ: حَمَّلْتُ فُلَانًا أَمْرَ كَذَا فَاحْتَمَلَهُ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا سُورَةُ الْأَحْزَابِ [72] .
وَإِطْلَاقُ الْحَمْلِ وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى اسْتِعَارَةٌ، بِتَشْبِيهِ إِيكَالِ الْأَمْرِ بِحَمْلِ الْحِمْلِ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ، وَبِذَلِكَ كَانَ تَمْثِيلُ حَالِهِمْ بِحَالِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا تَمْثِيلًا لِلْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ. وَهُوَ مِنْ لَطَائِفِ الْقُرْآنِ.
وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ فَإِنَّ عَدَمَ وَفَائِهِمْ بِمَا عُهِدَ إِلَيْهِمْ أَعْجَبُ مِنْ تَحَمُّلِهِمْ إِيَّاهُ.
وَجُمْلَةُ يَحْمِلُ أَسْفاراً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْحِمَارِ أَوْ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِأَنَّ تَعْرِيفَ الْحِمَارِ هُنَا تَعْرِيفُ جِنْسٍ فَهُوَ مَعْرِفَةٌ لَفْظًا نَكِرَةٌ مَعْنًى، فَصَحَّ فِي الْجُمْلَةِ اعْتِبَارُ الْحَالِيَّةِ وَالْوَصْفِ.
وَهَذَا التَّمْثِيلُ مَقْصُودٌ مِنْهُ تَشْنِيعَ حَالِهِمْ وَهُوَ مِنْ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ الْمُتَعَارَفِ، وَلِذَلِكَ ذُيِّلَ بِذَمِّ حَالِهِمْ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ.
وبِئْسَ فِعْلُ ذَمٍّ، أَيْ سَاءَ حَالُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِكِتَابِ اللَّهِ فَهُمْ قَدْ ضَمُّوا إِلَى جَهْلِهِمْ بِمَعَانِي التَّوْرَاةِ تَكْذِيبًا بِآيَاتِ اللَّهِ وَهِيَ الْقُرْآنُ.
ومَثَلُ الْقَوْمِ، فَاعل بِئْسَ. وأغنى هَذَا الْفَاعِلُ عَنْ ذِكْرِ الْمَخْصُوصِ بِالذَّمِ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمَذْمُومَ هُوَ حَالُ الْقَوْمِ الْمُكَذِّبِينَ فَلَمْ يَسْلُكْ فِي هَذَا التَّرْكِيب طَرِيق الْإِبْهَام عَلَى شَرْطِ التَّفْسِيرِ لِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَهُ مَا بَيَّنَهُ بِالْمَثَلِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ: كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً. فَصَارَ إِعَادَةُ لَفْظِ الْمَثَلِ ثَقِيلًا فِي الْكَلَامِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ مَرَّاتِ.
وَهَذَا مِنْ تَفَنُّنَاتِ الْقُرْآنِ. والَّذِينَ كَذَّبُوا صِفَةُ الْقَوْمِ.
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ تَذْيِيلٌ إِخْبَارًا عَنْهُمْ بِأَنَّ سُوءَ حَالِهِمْ لَا يُرْجَى لَهُمْ مِنْهُ انْفِكَاكٌ لِأَنَّ اللَّهُ حَرَمَهُمُ اللُّطْفَ وَالْعِنَايَةَ بِإِنْقَاذِهِمْ لِظُلْمِهِمْ بِالِاعْتِدَاءِ

الصفحة 214