كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 28)

السَّادِسِ. وَسَمَّتْهُ التَّوْرَاةُ سَبْتًا، قَالَ السُّهَيْلِيُّ: قِيلَ أَوَّلُ مَنْ سَمَّى يَوْمَ عَرُوبَةَ الْجُمُعَةَ كَعْبُ بْنُ لُؤَيٍّ جَدُّ أَبِي قُصَيٍّ. وَكَانَ قُرَيْشٌ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ إِلَى كَعْبٍ قَالَ: وَفِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ. لَمْ يُسَمَّ يَوْمُ عَرُوبَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَّا مُذْ جَاءَ الْإِسْلَامُ.
جَعَلَ اللَّهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِلْمُسْلِمِينَ عِيدَ الْأُسْبُوعِ فَشَرَعَ لَهُمُ اجْتِمَاعَ أَهْلِ الْبَلَدِ فِي الْمَسْجِدِ وَسَمَاعَ الْخُطْبَةِ لِيُعَلَّمُوا مَا يُهِمُّهُمْ فِي إِقَامَة شؤون دِينِهِمْ وَإِصْلَاحِهِمْ.
قَالَ القفّال: مَا جَعَلَ اللَّهُ النَّاسَ أَشْرَفَ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ لَمْ يُخْفِ عِظَمَ الْمِنَّةِ وَجَلَالَةَ قَدْرِ مَوْهِبَتِهِ لَهُمْ فَأَمَرَهُمْ بِالشُّكْرِ عَلَى هَذِهِ الْكَرَامَةِ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ لِيَكُونَ فِي اجْتِمَاعِهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ تَنْبِيهٌ عَلَى عِظَمِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ. وَلِكُلِّ أَهْلِ مِلَّةٍ مَعْرُوفَةٍ يَوْمٌ مِنَ الْأُسْبُوعِ مُعَظَّمٌ، فَلِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ وَلِلنَّصَارَى الْأَحَدُ وَلِلْمُسْلِمِينَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ. وَقَدْ
قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَحْنُ الْآخِرُونَ»
، أَيْ آخِرُ الدُّنْيَا السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَتَعَلَّقُ بِ «السَّابِقُونَ» ) . بَيْدَ أَنَّهُمْ (أَيِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى) أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا ثُمَّ كَانَ هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ إِلَيْهِ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ.
وَلَمَّا جُعِلَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ يَوْمَ شُكْرٍ وَتَعْظِيمِ نِعْمَةٍ احْتِيجَ فِيهِ إِلَى الِاجْتِمَاعِ الَّذِي تَقَعُ بِهِ شُهْرَتُهُ فَجُمِّعَتِ الْجَمَاعَاتُ لِذَلِكَ، وَاحْتِيجَ فِيهِ إِلَى الْخُطْبَةِ تَذْكِيرًا بِالنِّعْمَةِ وَحَثًّا عَلَى اسْتِدَامَتِهَا. وَلَمَّا كَانَ مَدَارُ التَّعْظِيمِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الصَّلَاةِ جُعِلَتِ الصَّلَاةُ لِهَذَا الْيَوْمِ وَسَطَ النَّهَارِ لِيَتِمَّ الِاجْتِمَاعُ وَلَمْ تَجُزْ هَذِهِ الصَّلَاةُ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ لِيَكُونَ أَدْعَى الِاجْتِمَاعِ اه.
كَلَامُ الْقَفَّالِ.
وَقَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ»
، إِشَارَةٌ إِلَى مَا عَمِلَهُ النَّصَارَى بَعْدَ الْمَسِيحِ وَبَعْدَ الْحَوَارِيِّينَ مِنْ تَعْوِيضِ يَوْمِ السَّبْتِ بِيَوْمِ الْأَحَدِ لِأَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ يَوْمَ الْأَحَدِ فِيهِ قَامَ عِيسَى مِنْ قَبْرِهِ. فَعَوَّضُوا الْأَحَدَ عَنْ يَوْمِ السَّبْتِ بِأَمْرٍ مِنْ قُسْطَنْطِينَ سُلْطَانِ الرُّومِ فِي سَنَةِ 321 الْمَسِيحِيِّ. وَصَارَ دِينًا لَهُمْ بِأَمْرِ أَحْبَارِهِمْ.
وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ هِيَ صَلَاةُ ظُهْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَلَيْسَتْ صَلَاةً زَائِدَةً عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَأُسْقِطَ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ رَكْعَتَانِ لِأَجْلِ الْخُطْبَتَيْنِ. رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: وَإِنَّمَا قُصِرَتِ الْجُمُعَةُ لِأَجْلِ الْخُطْبَةِ (¬1) .
¬_________
(¬1) رَوَاهُ أَبُو بكر الرَّازِيّ الْجَصَّاص فِي «أَحْكَام الْقُرْآن» لَهُ جُزْء 3 ص 548.

الصفحة 222