كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 28)

والْعَدُوُّ: اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ. وَالْمُرَادُ: الْحَذَرُ مِنَ الِاغْتِرَارِ بِظَوَاهِرِهِمُ الْخَلَّابَةِ لِئَلَّا يُخْلِصَ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِمْ بِسِرِّهِمْ وَلَا يَتَقَبَّلُوا نَصَائِحَهُمْ خَشْيَةَ الْمَكَائِدِ.
وَالْخطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُبَلِّغَهُ الْمُسْلِمِينَ فَيَحْذَرُوهُمْ.
قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ.
تَذْيِيلٌ فَإِنَّهُ جَمَعَ عَلَى الْإِجْمَالِ مَا يَغْنِي عَنْ تَعْدَادِ مَذَامِّهِمْ (كَقَوْلِهِ أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ [النِّسَاء: 63] ، مَسُوقٌ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ تَوَغُّلِهِمْ فِي الضَّلَالَةِ وَالْجَهَالَةِ بِعُدُولِهِمْ عَنِ الْحَقِّ.
فَافْتُتِحَ التَّعْجِيبُ مِنْهُمْ بِجُمْلَةٍ أَصْلُهَا دُعَاءٌ بِالْإِهْلَاكِ وَالِاسْتِئْصَالِ وَلَكِنَّهَا غَلَبَ اسْتِعْمَالُهَا فِي التَّعَجُّبِ أَوْ التَّعْجِيبِ مِنْ سُوءِ الْحَالِ الَّذِي جَرَّهُ صَاحِبُهُ لِنَفْسِهِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ
الْكَلِمِ الَّتِي هِيَ دُعَاءٌ بِسُوءٍ تُسْتَعْمَلُ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ مَكْرُوهٍ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: ثَكِلَتْهُ أُمُّهُ، وَوَيْلُ أُمِّهِ. وَتَرِبَتْ يَمِينُهُ. وَاسْتِعْمَالُ ذَلِكَ فِي التَّعَجُّبِ مَجَازٌ مُرْسَلٌ لِلْمُلَازَمَةِ بَيْنَ بُلُوغِ الْحَالِ فِي السُّوءِ وَبَيْنَ الدُّعَاءِ عَلَى صَاحبه بِالْهَلَاكِ، إِذْ لَا نفع لَهُ وَلَا للنَّاس فِي بَقَائِهِ، ثمَّ الْمُلَازمَة بَين الدُّعَاء بِالْهَلَاكِ وَبَيْنَ التَّعَجُّبِ مِنْ سُوءِ الْحَالِ. فَهِيَ مُلَازَمَةٌ بِمَرْتَبَتَيْنِ كِنَايَةٌ رَمْزِيَّةٌ.
وأَنَّى هُنَا اسْمُ اسْتِفْهَامٍ عَنِ الْمَكَانِ. وَأَصَّلُ أَنَّى ظَرْفُ مَكَانٍ وَكَثُرَ تَضْمِينُهُ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ فِي اسْتِعْمَالَاتِهِ، وَقَدْ يَكُونُ لِلْمَكَانِ الْمَجَازِيِّ فَيُفَسَّرُ بِمَعْنَى (كَيْفَ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا فِي سُورَةِ عِمْرَانَ [165] ، وَفِي قَوْلِهِ: أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى فِي سُورَةِ الدُّخَانِ [13] . وَمِنْهُ قَوْلُهُ هُنَا أَنَّى يُؤْفَكُونَ، وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ لِأَنَّ الْأَمْرَ الْعَجِيبَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُسْتَفْهَمَ عَنْ حَالِ حُصُولِهِ.
فَالِاسْتِفْهَامُ عَنْهُ مِنْ لَوَازِمِ أُعْجُوبَتِهِ. فَجُمْلَةُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ بَيَانٌ لِلتَّعْجِيبِ الْإِجْمَالِيِّ الْمُفَادِ بِجُمْلَةِ قاتَلَهُمُ اللَّهُ.

الصفحة 242