كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 28)

[3]

[سُورَة التغابن (64) : آيَة 3]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ.
اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [التغابن: 2] يُبَيِّنُ أَنَّ انْقِسَامَهُمْ إِلَى قِسْمَيِ الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ نَشَأَ عَنْ حِيَادِ فَرِيقٍ مِنَ النَّاسِ عَنِ الْحَقِّ الَّذِي أُقِيمَ عَلَيْهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِأَنَّ الْحَقَّ أَنْ يُؤْمِنَ النَّاسُ بِوُجُودِ خَالِقِهِمْ، وَبِأَنَّهُ وَاحِدٌ وَأَنْ يَفْرِدُوهُ بَالْعِبَادَةِ فَذَلِكَ الَّذِي أَرَادَهُ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] . وَقَالَ: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الرّوم: 30] فَمَنْ حَادَ عَنِ الْإِيمَانِ وَمَالَ إِلَى الْكُفْرِ فَقَدْ حَادَ عَنِ الْحَقِّ وَالْفِطْرَةِ.
بِالْحَقِّ.
وَقَوْلُهُ: بِالْحَقِّ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجُمْلَةِ وَصَوَّرَكُمْ.
وَفِي قَوْلِهِ: بِالْحَقِّ إِيمَاءٌ إِلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ لِأَنَّ قَوْلَهُ بِالْحَقِّ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ خَلَقَ تَعَلُّقَ الْمُلَابَسَةِ الْمُفَادَ بِالْبَاءِ، أَيْ خَلْقًا مُلَابِسًا لِلْحَقِ، وَالْحَقُّ ضِدُّ الْبَاطِلِ، أَلَا
تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ: رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا [آل عمرَان: 190، 191] . وَالْبَاطِل مصدقه هُنَالِكَ هُوَ الْعَبَثُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الدُّخان: 38، 39] فَتعين أَن مُصدق الْحَقِّ فِي قَوْلِهِ: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أَنَّهُ ضِدُّ الْعَبَثِ وَالْإِهْمَالِ.
وَالْمُرَادُ بِ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ خَلَقَ ذَوَاتِهِنَّ وَخُلِقَ مَا فِيهِنَّ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا أَنْبَأَ عَنْهُ قَوْلُهُ: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ، أَيْ مَا خَلَقْنَاهُمَا وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ التَّقْدِيرُ فِي الْآيَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَمُلَابَسَةُ الْحَقِّ لِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مُلَابَسَةً عَامَّةً مُطَّرِدَةً لِأَنَّهُ لَوِ اخْتَلَّتْ مُلَابَسَةُ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ مَخْلُوقَاتِ السَّمَاوَاتِ لِلْحَقِّ لَكَانَ نَاقِضًا لِمَعْنَى مُلَابَسَةِ خَلْقِهَا لِلْحَقِّ، فَكَانَ نَفْيُ الْبَعْثِ لِلْجَزَاءِ عَلَى أَعْمَالِ الْمَخْلُوقَاتِ مُوجِبًا

الصفحة 264