كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 28)

تَبَعًا لِعُمُومِ الْأَزْمَانِ وَيَعُمَّ الِاسْتِطَاعَاتِ، فَلَا يَتَخَلَّوْا عَنِ التَّقْوَى فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَزْمَانِ. وَجُعِلَتِ الْأَزْمَانُ ظَرْفًا لِلِاسْتِطَاعَةِ لِئَلَّا يُقَصِّرُوا بَالتَّفْرِيطِ فِي شَيْءٍ يَسْتَطِيعُونَهُ فِيمَا أُمِرُوا بِالتَّقْوَى فِي شَأْنِهِ مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَدِّ الِاسْتِطَاعَةِ إِلَى حَدِّ الْمَشَقَّةِ قَالَ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَة: 185] .
فَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: مَا اسْتَطَعْتُمْ تَخْفِيفٌ وَلَا تَشْدِيدٌ وَلَكِنَّهُ عَدْلٌ وَإِنْصَافٌ. فَفِيهِ مَا عَلَيْهِمْ وَفِيهِ مَا لَهُمْ.
رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «بَايَعْتُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فَلَقَّنَنِي: «فِيمَا اسْتَطَعْتُ» ،
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: كُنَّا إِذَا بَايعنَا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ يَقُولُ لَنَا «فِيمَا اسْتَطَعْتُ»
. وَعَطْفُ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا عَلَى (اتَّقُوا اللَّهَ) مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَلِأَنَّ التَّقْوَى تَتَبَادَرُ فِي تَرْكِ الْمَنْهِيَّاتِ فَإِنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنْ وَقَى. فَتَقْوَى اللَّهِ أَنْ يَقِيَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ مِمَّا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَمَّا كَانَ ترك المأمورات فيؤول إِلَى إِتْيَانِ الْمَنْهِيَّاتِ، لِأَنَّ تَرْكَ الْأَمْرِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ إِذِ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ. كَانَ التَّصْرِيحُ بِهِ بِخُصُوصِهِ اهْتِمَامًا بِكِلَا الْأَمْرَيْنِ لِتَحْصُلَ حَقِيقَةُ التَّقْوَى الشَّرْعِيَّةِ وَهِيَ اجْتِنَابُ الْمَنْهِيَّاتِ وَامْتِثَالُ الْمَأْمُورَاتِ.
وَالْمُرَادُ: اسْمَعُوا الله، أَي أطيعوه بِالسَّمْعِ للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَاعَتِهِ.
وَالْأَمْرُ بِالسَّمْعِ أَمْرٌ يَتَلَقَّى الشَّرِيعَةَ وَالْإِقْبَالَ عَلَى سَمَاعِ مواعظ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ وَسِيلَةُ التَّقْوَى قَالَ تَعَالَى: فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر: 17، 18] .
وَعُطِفَ عَلَيْهِ وَأَطِيعُوا: أَيْ أَطِيعُوا مَا سَمِعْتُمْ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ.
وَعَطْفُ وَأَنْفِقُوا تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ فَإِنَّ الْإِنْفَاقَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ مِنَ الْمَأْمُورَاتِ.
وَصِيغَةُ الْأَمْرِ تَشْتَمِلُ وَاجِبَ الْإِنْفَاقِ وَالْمَنْدُوبَ فَفِيهِ التَّحْرِيضُ عَلَى الْإِنْفَاقِ بِمَرْتَبَتِيهِ وَهَذَا مِنَ الاهتمام بالنزاهة عَن فِتْنَةِ الْمَالِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي قَوْله: نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
[التغابن: 15] .

الصفحة 288