كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 28)

وَانْتَصَبَ خَيْراً عَلَى الصِّفَةِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ أَنْفِقُوا. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْفَاقًا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ. هَذَا قَوْلُ الْكِسَائِيِّ والفرّاء فَيكون خَيْراً اسْمَ تَفْضِيلٍ. وَأَصْلُهُ: أَخْيَرُ، وَهُوَ مَحْذُوفُ الْهَمْزَةِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، أَيِ الْإِنْفَاقُ خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ الْإِمْسَاكِ. وَعَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ لِفِعْلٍ مُضْمَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ أَنْفِقُوا. وَالتَّقْدِيرُ: ائْتُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ. وَجُمْلَةُ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ تَذْيِيلٌ.
ومَنْ اسْمُ شَرْطٍ وَهِيَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ: أَيْ كُلُّ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ وَالْعُمُومُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ مُرَادٌ بِهَا جِنْسٌ لَا شَخْصٌ مُعِيَّنٌ وَلَا طَائِفَةٌ، وَهَذَا حُبٌّ اقْتَضَاهُ حِرْصُ أَكْثَرِ النَّاسِ عَلَى حِفْظِ الْمَالِ وَادِّخَارِهِ وَالْإِقْلَالِ مِنْ نَفْعِ الْغَيْرِ بِهِ وَذَلِكَ الْحِرْصُ يُسَمَّى الشُّحُّ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْإِنْفَاقَ يَقِي صَاحِبَهُ مِنَ الشُّحِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَإِذَا يُسِّرَ عَلَى الْمَرْءِ الْإِنْفَاقُ فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَقَدْ وُقِيَ شُحَّ نَفْسِهِ وَذَلِكَ مِنَ الْفَلَاحِ.
وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ فَلَاحًا عَظِيمًا جِيءَ فِي جَانِبِهِ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ بِطَرِيقَةِ تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ، وَهُوَ قَصْرُ جِنْسِ الْمُفْلِحِينَ عَلَى جِنْسِ الَّذِينَ وُقُوا شُحَّ أَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ للْمُبَالَغَة فِي تَحْقِيق وَصْفِ الْمُفْلِحِينَ الَّذِينَ وُقُوا شُحَّ أَنْفُسِهِمْ نَزَلَ الْآنَ فَلَاحُ غَيْرِهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ.
وَإِضَافَةُ شُحَّ إِلَى النَّفْسِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الشُّحَّ مِنْ طِبَاعِ النَّفْسِ فَإِنَّ النُّفُوسَ شَحِيحَةٌ بِالْأَشْيَاءِ الْمُحَبَّبَةِ إِلَيْهَا قَالَ تَعَالَى: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ [النِّسَاء: 128] .
وَفِي الْحَدِيثِ لَمَّا سُئِلَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَفْضَلِ الصَّدَقَةِ قَالَ: «أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى. وَأَنْ لَا تَدَعَ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا وَقَدْ كَانَ لفُلَان»
وَتقدم نَظِيره وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فِي سُورَةِ الْحَشْرِ

الصفحة 289