كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 28)

رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهَا: «إِنَّمَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ عَلَى مَنْ لَهُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ»
. وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ. وَلَمْ يَقْبَلْهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: لَا نَتْرُكُ كِتَابَ الله وَسنة نبيئنا لِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي لَعَلَّهَا نَسِيَتْ أَوْ شُبِّهَ عَلَيْهَا. وَأَنْكَرَتْهُ عَائِشَةُ عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فِيمَا ذَكَرَتْهُ مِنْ أَنَّهُ أَذِنَ لَهَا فِي الِانْتِقَالِ إِلَى مَكَانٍ غَيْرِ الَّذِي طُلِّقَتْ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ «روى عَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ لِلْمُطَلَّقَةِ الْبَائِنَةِ سُكْنَى»
(¬1) . وَرَوَوْا أَنَّ قَتَادَةَ وَابْنَ أَبِي لَيْلَى أَخَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً [الطَّلَاق: 1] إِذِ الْأَمْرُ هُوَ الْمُرَاجَعَةُ، فَقَصَرَا الطَّلَاقَ فِي قَوْلِهِ: إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطَّلَاق: 1] ، عَلَى الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ لِأَنَّ الْبَائِنَ لَا تَتَرَقَّبُ بَعْدَهُ مُرَاجَعَةً وَسَبَقَهَا إِلَى هَذَا الْمَأْخَذِ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ الْمَذْكُورَةُ.
رَوَى مُسْلِمٌ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ أَرْسَلَ إِلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ يَسْأَلُهَا عَنِ الْحَدِيثِ فَحَدَّثَتْهُ فَقَالَ مَرْوَانُ: لَمْ نَسْمَعْ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَّا مِنَ الْمَرْأَةِ سَنَأْخُذُ بِالْعِصْمَةِ الَّتِي وَجَدْنَا عَلَيْهَا النَّاسَ فَبَلَغَ قَوْلُ مَرْوَانَ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ فَقَالَتْ: «بَيْنِي وَبَيْنَكُمُ الْقُرْآنُ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ، إِلَى قَوْلِهِ: لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً [الطَّلَاق: 1] قَالَتْ: هَذَا لِمَنْ كَانَتْ لَهُ رَجْعَةٌ فَأَيُّ أَمْرٍ يَحْدُثُ بَعْدَ الثَّلَاثِ» اه.
وَيَرُدُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ إِحْدَاثَ الْأَمْرِ لَيْسَ قَاصِرًا عَلَى الْمُرَاجَعَةِ فَإِنَّ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي يُحْدِثُهُ اللَّهُ أَنْ يُرَقِّقَ قُلُوبَهُمَا فَيَرْغَبَا مَعًا فِي إِعَادَةِ الْمُعَاشَرَةِ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ. وَعَلَى تَسْلِيمِ اقْتِصَارِ
ذَلِكَ عَلَى إِحْدَاثِ أَمْرِ الْمُرَاجَعَةِ فَذِكْرُ هَذِهِ الْحِكْمَةِ لَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَ عُمُومِ اللَّفْظِ الَّذِي قَبْلَهَا إِذْ يَكْفِي أَنْ تَكُونَ حِكْمَةً لِبَعْضِ أَحْوَالِ الْعَامِّ. فَالصَّوَابُ أَنَّ حَقَّ السُّكْنَى لِلْمُطَلَّقَاتِ كُلِّهِنَّ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ، أَيْ فِي الْبُيُوتِ الَّتِي تَسْكُنُونَهَا، أَيْ لَا يُكَلَّفُ الْمُطَلِّقُ بِمَكَانٍ لِلْمُطَلَّقَةِ غَيْرَ بَيْتِهِ وَلَا يَمْنَعُهَا السُّكْنَى بِبَيْتِهِ. وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ [الطَّلَاق: 1] .
¬_________
(¬1) هَكَذَا يروي الْمُفَسِّرُونَ عَن عمر: أَنه سمع من النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِك وَلم أَقف عَلَيْهِ مُسْندًا.

الصفحة 326