كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 29)

تُضْمَرُ بَعْدَهَا (أَنْ) فَتَنْصِبَ الْمُضَارِعَ. وَكَوْنُ الْمُشَرَّكِ بِهَا وَاحِدًا مِنْ مُتَعَدِّدٍ مُلَازِمٌ لِمَوَاقِعِهَا كُلِّهَا.
فَمَعْنَى الْآيَةِ نَهْيٌ عَنْ طَاعَةِ أَحَدِ هَذَيْنِ الْمَوْصُوفَيْنِ وَيَعْلَمُ أَنَّ طَاعَةَ كِلَيْهِمَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى لِأَنَّهُ إِذَا أَطَاعَهُمَا مَعًا فَقَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُ طَاعَةُ أَحَدِهِمَا وَزِيَادَةٌ.
وَمَوْقِعُ مِنْهُمْ مَوْقِعُ الْحَالِ مِنْ آثِماً فَإِنَّهُ صِفَةُ آثِماً فَلَمَّا قُدِّمَتِ الصِّفَةُ عَلَى الْمَوْصُوفِ صَارَتْ حَالًا.
وَ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ. وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِهَا عَائِدٌ لِلْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُمْ ذِكْرٌ لِأَنَّهُمْ مَعْلُومُونَ مِنْ سِيَاقِ الدَّعْوَةِ أَوْ لِأَنَّهُمُ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا أَيْ لَا كَمَا يَزْعُمُ الْمُشْرِكُونَ أَنَّكَ جِئْتَ بِهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِكَ، وَمِنْ قَوْلِهِ: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ، أَيْ عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ.
وَيُؤَوَّلُ الْمَعْنَى: وَلَا تُطِعْ أَحَدًا من الْمُشْركين.
[25- 26]

[سُورَة الْإِنْسَان (76) : الْآيَات 25 إِلَى 26]
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26)
أَيْ أَقْبِلْ عَلَى شَأْنِكَ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ وَذِكْرِ اللَّهِ بِأَنْوَاعِ الذِّكْرِ. وَهَذَا إِرْشَادٌ إِلَى مَا فِيهِ عَوْنٌ لَهُ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى مَا يَقُولُونَ.
وَالْمُرَادُ بِالْبُكْرَةِ وَالْأَصِيلِ اسْتِغْرَاقُ أَوْقَاتِ النَّهَارِ، أَيْ لَا يَصُدُّكَ إِعْرَاضُهُمْ عَنْ مُعَاوَدَةِ الدَّعْوَةِ وَتَكْرِيرِهَا طَرَفَيِ النَّهَارِ. وَيَدْخُلُ فِي ذِكْرِ اللَّهِ الصَّلَوَاتُ مِثْلُ قَوْلِهِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [هود: 114، 115] . وَكَذَلِكَ النَّوَافِلُ الَّتِي هِيَ مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ مَفْرُوضٍ مِنْهَا وَغَيْرِ مَفْرُوضٍ. فَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرِ مُسْتَعْمَلٌ فِي مُطْلَقِ الطَّلَبِ مِنْ وُجُوبٍ وَنَفْلٍ.
وَذِكْرُ اسْمِ الرَّبِّ يَشْمَلُ تَبْلِيغَ الدَّعْوَةِ وَيَشْمَلُ عِبَادَةَ اللَّهِ فِي الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ وَالنَّوَافِلِ وَيَشْمَلُ الْمَوْعِظَةَ بِتَخْوِيفِ عِقَابِهِ وَرَجَاءِ ثَوَابِهِ.

الصفحة 405