كتاب التحرير والتنوير (اسم الجزء: 29)

وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ أَمْثَالُهُمْ فِي أَنَّهُمْ أُمَمٌ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَعْثَ يَحْصُلُ بِخَلْقِ أَجْسَامٍ عَلَى مِثَالِ الْأَجْسَادِ الَّتِي كَانَتْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِلْأَرْوَاحِ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا.
وَانْتَصَبَ تَبْدِيلًا عَلَى الْمَفْعُول الْمُطلق المؤكّد لِعَامِلِهِ لِلدِّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ تَبْدِيلٌ حَقِيقِيٌّ، وَلِلتَّوَصُّلِ بِالتَّنْوِينِ إِلَى تَعْظِيمه وعجوبته.
[29]

[سُورَة الْإِنْسَان (76) : آيَة 29]
إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلِانْتِقَالِ مِنْ بَسْطِ التَّذْكِيرِ وَالِاسْتِدْلَالِ إِلَى فَذْلَكَةِ الْغَرَضِ وَحَوْصَلَتِهِ،
إِشْعَارًا بِانْتِهَاءِ الْمَقْصُودِ وَتَنْبِيهًا إِلَى فَائِدَتِهِ، وَوَجْهِ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَالْحَثِّ عَلَى التَّدَبُّرِ فِيهِ، وَاسْتِثْمَارِ ثَمَرَتِهِ، وَبِاعْتِبَارِ مَا تَفَرَّعَ عَنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ قَوْلِهِ: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلَخْ يَقْوَى مَوْقِعُ الْفَذْلَكَةِ لِلْجُمْلَةِ وَتَأْكِيدُ الْكَلَامِ بِحَرْفِ إِنَّ لِأَنَّ حَالَ الْمُخَاطَبِينَ عَدَمُ اهْتِمَامِهِمْ بِهَا فَهُمْ يُنْكِرُونَ أَنَّهَا تَذْكِرَةٌ.
وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَوْ إِلَى السُّورَةِ وَلِذَلِكَ أُتِيَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ الْمُؤَنَّثِ.
وَالتَّذْكِرَةُ: مَصْدَرُ ذَكَّرَهُ (مِثْلَ التَّزْكِيَةِ) ، أَيْ أُكَلِّمُهُ كَلَامًا يُذَكِّرُهُ بِهِ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ نَسِيَهُ أُطْلِقَتْ هُنَا عَلَى الْمَوْعِظَةِ بِالْإِقْلَاعِ عَن عمل سيّىء وَالْإِقْبَالِ عَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ وَعَلَى وُضُوحِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ لِمَنْ تَذَكَّرَ، أَيْ تَبَصَّرَ بِتَشْبِيهِ حَالَةِ الْمُعْرِضِ عَنِ الْخَيْرِ الْمَشْغُولِ عَنْهُ بِحَالَةِ النَّاسِي لَهُ لِأَنَّ شَأْنَهُ أَلَّا يُفَرِّطَ فِيهِ إِلَّا مَنْ كَانَ نَاسِيًا لِمَا فِيهِ مِنْ نَفْعٍ لَهُ.
وَفُرِّعَ عَلَيْهِ الْحَثُّ عَلَى سُلُوكِ سَبِيلِ مَرْضَاةِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا، أَيْ لَيْسَ بَعْدَ هَذِهِ التَّذْكِرَةِ إِلَّا الْعَمَلُ بِهَا إِذَا شَاءَ الْمُتَذَكِّرُ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا.
فَفِي قَوْله: فَمَنْ شاءَ حَثٌّ عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِذَلِكَ لِأَنَّ مَشِيئَةَ الْمَرْءِ فِي مِكْنَتِهِ فَلَا يَمْنَعُهُ مِنْهَا إِلَّا سُوءُ تَدْبِيرِهِ.
وَهَذَا حَثٌّ وَتَحْرِيضٌ فِيهِ تَعْرِيض بالمشركين بِأَنَّهُمْ أَبَوْا أَنْ يَتَذَكَّرُوا عِنَادًا وَحَسَدًا.
وَاتِّخَاذُ السَّبِيلِ: سُلُوكُهُ، عُبِّرَ عَنِ السُّلُوكِ بِالِاتِّخَاذِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ بِتَشْبِيهٍ

الصفحة 411