كتاب الطبقات الكبرى - ط الخانجي (اسم الجزء: 3)

رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، وكان منزله بالسُّنْح عند زوجته حَبيبةَ بنت خارجة بن زيد بن أبى زهير من بنى الحارث بن الخزرج، وكان قد حجّر عليه حُجْرة من شَعْر فما زاد على ذلك حتَّى تحوّل إلى منزله بالمدينة فأقام هناك بالسّنْح بعدما بويع له ستّة أشهر يغدو على رجليه إلى المدينة ورّبما ركب على فرس له وعليه إزارٌ ورداءٌ مُمَشَّقٌ فيوافى المدينة فيصلّى الصدوات بالنّاس فإذا صلّى العشاء رجع إلى أهله بالسّنح، فكان إذا حَضَرَ صلّى بالنّاس وإذا لم يَحْضُرْ صلّى عمر بن الخطّاب.
وكان يقيم يوم الجمعة في صدر النّهار بالسّنْح يصْبُغُ رأسَه ولحيته ثم يروح لقَدَر الجمعة فيُجَمّع بالنّاس، وكان رجلًا تاجرًا فكان يغدو كلّ يوم السوق فيبيع ويبتاع، وكانت له قطعة غنم تروح عليه وربما خرج هو نفسه فيها ورُّبما كُفيَها فرُعِيَتْ له.
وكان يَحْلُبُ للحيّ أغنامهم، فلمّا بويع له بالخلافة قالت جارية من الحيّ: الآن لا تُحلبُ لنا منائحُ (¬١) دارِنا، فسمِعَها أبو بكر فقال: بلى لعمرى لأحْلُبَنّها لكم وإنّى لأرجو أن لا يغيّرنى ما دخلتُ فيه عن خُلُقٍ كنتُ عليه (¬٢)، فكان يحلُبُ لهم فرّبما قال للجارية من الحيّ: يا جارية أتُحبّين أنْ أُرْغِىَ لكِ أو أصَرّحَ؟ فرّبما قالت: أرْغِ، ورّبما قالت: صَرّحْ، فأيّ ذلك قالت فَعَلَ، فمكث كذلك بالسّنح ستّة أشهر ثمّ نزل إلى المدينة فأقام بها ونظر في أمره فقال: لا والله ما يُصْبحُ أمرَ النّاس التجارة وما يصْلُحُ لهم إلّا التفَرّغُ والنظر في شأنهم وما بدٌّ لعيالى ممّا يُصْلحهم، فترك التجارة واستنفق من مال المسلمين ما يُصْلِحُهُ ويُصْلحُ عياله يومًا بيومٍ ويَحُجّ ويعتمر.
وكان الذي فرضوا له كلّ سنة ستّة آلاف درهم، فلمّا حضرته الوفاةُ قال: رُدّوا ما عندنا من مال المسلمين فإنّى لا أُصيب من هذا المال شيئًا، وإنّ أرْضى التي بمكان كذا وكذا للمسلمين بما أصبتُ من أموالهم. فدُفع ذلك إلى عمر ولَقوحٌ وعَبْدٌ صَيْقَلٌ وقطيفةٌ ما يساوى خمسة دراهم فقال عمر: لقد أتْعَبَ مَنْ بعده.
---------------
(¬١) الغنم ذوات اللبن.
(¬٢) أورده ابن الجوزى في صفة الصفوة ج ١ ص ٢٥٨.

الصفحة 170