كتاب الطبقات الكبرى - ط الخانجي (اسم الجزء: 5)

الحديد، عِمَامة سوداء، وفي يده رمحٌ، وعلى ظهره ترس، فلما طلع عليه ضحك وقال: ما كنتَ تصنع بحَمْلِ السلاح إلينا؟ قال: خِفْتُ أَنْ أَلقى دُونك فأكون قد فَرَّطتُ فالتفت إلى أصحابه فقال بيده - عقد الأَنملة على إبهامِه - ثم قال: مرحبًا بك، وأجلسه معه على سريره وحادثه فأطال، ثم كلّمه بكلام كثيرٍ، وحاجَّهُ عَمْرو ودعاهُ إلى الإسلام.
فلما سمع البَطْريق كلامه وبيانه وأَداءَه قال بالرومية يَا مَعْشَرَ الرُوم، أطِيعُونِي اليومَ واعصوني الدهر، هذا أميرُ القوم، أَلَا تَرَوْنَ أنى كلما كَلّمته كلمةً أجابنى عن نفسه؟ لا يقول: أشاور أصحابى وأَذْكُر لهم ما عرضتَ عَلَيَّ وليس الرأى إلا أن نقتله قبل أن يخرج من عندنا، فتختلف العرب بينها وَيَهِنُ (¬١) أَمْرُهُم، ويفثئون (¬٢) عن قتالنا. فقال مَنْ حَوْلَه مِنَ الروم: ليس هذا برأى.
وَكَانَ دَخَل مع عمرو بن العاص رجلٌ من أصحابه يعرف كلام الروم، فألقَى إلى عَمْرو ما قال الملك. ثم قال الملك: أَلَا تخبرنى هل (¬٣) في أصحابك مثلكُ يُبين بيانَك ويُؤَدّى أداءك؟ فقال عَمْرو: أنا أَكَلُّ أصحابى لسانا وأدناهم أدَاءً، وفى أصحابى مَنْ لو كلمتَه لعرفتَ أني لست هناك قال: فأنا أُحِبُّ أَنْ تَبْعَثَ إلَيَّ رأسَكم في البيان والتقدم والأداء حتى أكلمه، فقال عَمْرو: أَفعل.
وخرج عَمرو من عنده. فقال البطريق لأصحابه: لأُخَالِفنَّكم! لئن دخل عَلَيَّ فرأيتُ منه ما يقول لأضْرِبَنَّ عُنُقَهُ! فلما خرج عَمْرو من الباب كَبَّرَ وقال: لا أعود لمثل هذا أبدًا، وأتى منزله فاجتمع إليه أصحابه يسألونه، فَخَبَّرهم خبره وخبر البطريق، فأعظمَ القوم ذلك، وحَمَدوا الله على ما رزق من السلامة.
وكتب عَمْرو بذلك إلى عُمَر، فكتب إليه عمر: الحمد لله على إحسانه إلينا، وإيّاك والتغريرَ بنفسك أو بأحدٍ من المسلمين في هذا وشبهه (¬٤)، وبحسب العِلج منهم، يُكَلَّمَ في مكان سواء بينك وبينه، فتأمن غائلته، ويكون أكسر له.
---------------
(¬١) ابن عساكر "وينتهى".
(¬٢) ابن عساكر "ويعفَون من قتالنا".
(¬٣) في الأصل: عنك. والمثبت من ابن عساكر.
(¬٤) ابن عساكر "أو شبهه".

الصفحة 64