قد كنتُ على أطباقٍ ثلاثٍ، قدْ رأيتُنى ما من الناس من أحدٍ أبغض إليّ من رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - ولا أحبّ إليّ من أن أسْتَمْكِنَ منه فأقتله، فلو متّ على تلك الطبقة لكنتُ من أهل النار، ثمّ جعل الله الإسلام في قلبى فأتيتُ رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، لأبايعه فقلتُ: ابسط يمينك أبايِعْك يا رسول الله، قال: فبسط يده ثمّ إني قبضتُ يدى فقال: ما لك يا عمرو؟ قال فقلتُ: أردتُ أن أشترط، فقال: تشترط ماذا؟ فقلتُ: أشترط أن يُغْفَرَ لي، فقال: أما علمتَ يا عمرو أنّ الإسلامَ يَهْدِمُ ما كان قبله وأنّ الهجرة تهدم ما كان قبلها وأنّ الحجّ يهدم ما كان قبله؟ فقد رأيتُنى ما من الناس أحد أحبّ إليّ من رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، ولا أجلّ في عينى منه، ولو سُئِلتُ أن أنْعَتَه ما أطَقْتُ لأنى لم أكن أطيق أن أملأ عينى إجلالًا له، فلو متُّ على تلك الطبقةِ رجوتُ أن أكون من أهل الجنّة. ثمّ ولينا أشياءَ بعدُ فلستُ أدرى ما أنا فيها أو ما حالى فيها، فإذا أنا متّ فلا تَصْحَبْنى نائحةٌ ولا نار، فإذا دفنتمونى فسُنّوا عليّ الترابَ سَنًّا، فإذا فرغتم من قبرى فامكثوا عند قبرى قدر ما يُنْحَرُ جَزورٌ ويُقْسَمُ لحمها فإنى أستأنس بكم حتى أعلم ماذا أراجع به رُسُلَ ربّى.
قال: أخبرنا رَوْح بن عُبادة، قال: حدّثنا عوف، عن الحسن، قال: بلغنى أنّ عمرو بن العاص لما كان عند الموت دعا حرَسَه فقال: أيّ صاحب كنتُ لكم؟ قالوا: كنتَ لنا صاحب صِدْقٍ تُكْرمُنا وتُعْطينا وتفعل وتفعل، قال: فإنّى إنّما كنتُ أفعل ذلك لتمنعونى من الموت، وإنّ الموتَ ها هو ذا قد نزل بي فأغْنوه عنّى.
فنظر القوم بعضهم إلى بعض فقالوا: والله ما كنّا نَحْسِبُك تَكَلّمُ بالعَوْراءِ يا أبا عبد الله، قد علمتَ أنّا لا نُغْنى عنك من الموت شيئًا، فقال: أما والله لقد قلتُها وإنى لأعْلَمُ أنّكم لا تُغْنُون عنّى من الموت شيئًا ولكن والله لأنْ أكون لم أتّخِذْ منكم رجلًا قطّ يمنعنى مِن الموت أحبّ إليّ من كذا وكذا، فيا وَيْحَ ابن أبي طالب إذ يقول: حَرَسَ امرءًا أجَلُه (¬١).
ثمّ قال عمرو: اللهمّ لا بَرِئٌ فأعتذر ولا عزيز فأنتصر وإلّا تُدْركْنى برحمةٍ أكن من الهالكين (¬٢).
---------------
(¬١) حرس امرءًا أجلُه: تحرفت في طبعتى إحسان والتحرير إلى "حَرَسٌ أمراء أجلِه" وصوابه من ث، وسير أعلام النبلاء ج ٣ ص ٧٦.
(¬٢) الخبر بسنده ونصه لدى ابن عساكر في تاريخه كما في المختصر.