مُلَمْلَمَة ملس كأنها خُرِطَت وما يصيبه منها شيء ولا يتنحى عنها ولا يفزع لها (¬١).
وحَشَر الحجاج أهل الشام يومًا وخطبهم، وأمرهم بالطاعة وأن يَرَى أثرهم اليوم، فإن الأمر قد اقترب، فأقبلوا ولهم زَجَل (¬٢) وَفَرَح. وسمعت بذلك أسماء بنت أبى بكر الصديق أم عبد الله بن الزبير، فقالت لعبد الله -مولاها -: اذهب فانظر ما فعل الناس، إن هذا اليوم يوم عصيب، اللهم أَمْضِ ابنى عَلَى بَيِّنَة، فذهب عبد الله ثم رجع فقال: رأيت أهل الشام قد أخذوا بأبواب المسجد، وهم من الأبواب إلى الحجون، فخرج أمير المؤمنين يَخْطِر بسيفه وهو ويقول:
إنِّى إذا أَعْرفُ يومى أصْبِرْ ... إذ بعضهم يعرفُ ثم يُنْكِرْ (¬٣)
فدفعهم دفعة تراكَمُوا منها فوقعوا على وجوههم، وأكثر فيهم القتل، ثم رجع إلى موضعه، قالت: من رأيتَ معه؟ قال: معه أهل بيته ونُفَيرٌ قليل، قالت أمه: خذلوه وأحبوا الحياة، ولم ينظروا لدينهم ولا لأحسابهم، ثم قامت تصلى وتدعو وتقول: اللهم إن عبد الله بن الزبير كان معظّما لحرمتك، كَرِيْهٌ إليه أن تعْصَى، وقد جاهد فيك أعداءك، وبذل مهجة نفسه لرجاء ثوابك، اللهم فلا تخيبه، اللهم ارحم ذلك السجود والنّحيب والظمأ فى تلك الهواجر، اللهم لا أقوله تزكية، ولكن الذى أعلم، وأنت أعلم به، اللهم وكان برا بالوالدين (¬٤).
قال: ثم جاء عبد الله بن الزبير، فدخل على أمه وعليه الدرع والمِغْفَر، فوقف عليها، فسلم، ثم دنا فتناول يدها فقبَّلها وَوَدعها، فقالت: هذا ودَاع فلا تَبْعَدْ إلا من النار.
فقال ابن الزبير: نعم جئتُ مودعًا لك، إنى لأرى هذا آخر يوم من الدنيا يَمُرُّ بى، واعلمى يا أمّه أنى إن قُتلتُ؛ فإنما أنا لحم ودم لا يضرنى ما صُنع بى.
---------------
(¬١) ابن عساكر ص ٤٨٠ نقلا عن ابن سعد.
(¬٢) الجلبة ورفع الصوت.
(¬٣) أورده ابن عساكر ص ٤٨٠ نقلا عن ابن سعد.
(¬٤) ابن عساكر ص ٤٨١ نقلا عن ابن سعد.