قالت: صدقت، فامض عَلَى بَصِيرَتك، ولا تمكِّن ابن أبى عقيل منك، وادْنُ منى أودعك، فدنا منها فعانقها، فمسّت الدرع فقالت: ما هذا صنيع من يريد ما تريد! فقال: ما لبست الدرع إلا لأشُدّ منك. قالت: فإنه لا يشدّ منّى بل يخالفنى، فنزعها، ثم أدرج كُمّه وشدّ أسفلَ قميصِه، وجُبّةَ خَزّ تحت القميص وأدخل أسفلها فى المِنْطَقة، وأمّه تقول: أليس (¬١) ثيابك مُشَمّرة؟ قال: بَلَى هى على عَهدك. قالت: ثبّتك الله، فانصرف من عندها وهو يقول:
إِنّى إذا أعرفُ يومى أصْبِرْ ... إذْ بعضهم يعرفُ ثم ينْكرْ (¬٢)
فَفَهِمَتْ قولَه، فقالت: تَصْبِر والله إن شاء الله، أليس أبوك الزبير؟
قال: ثم لاقاهم فحمل عليهم حملة هزمهم، حتى أوقفهم خارجًا من الباب، ثم حمل عليه أهل حمص، فحمل عليهم فمثل ذلك (¬٣).
قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنى عبد الرحمن بن أبى الزناد، عن مَخْرمة بن سليمان الوالِبِى، قال: دخل عبد الله بن الزبير على أمه حين رأى من الناس ما رأى من خذلانهم إياه، فقال: يا أمه، خَذَلنى الناس حتى وَلَدى وأهلى، فلم يبق معى إلا من ليس عنده من الدفع أكثر من صبر ساعة، والقوم يعطونى ما أردت من الدنيا، فما رأيكِ؟ فقالت أمه: أنتَ والله يا بُنى أعلم بنفسك، إن كنتَ تعلم أنك على حقّ وإليه تدعو، فامضِ له، فقد قُتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك فتلعب بك غلمان بنى أمية، وإن كنتَ إنما أردتَ الدنيا، فبئسَ العبد أنت! ، أهلكت نفسك وأهلكت مَنْ قُتل معك (¬٤).
قال: فدنا ابن الزبير فقَبّل رأسها، فقال: هذا والله رأيى، والذى قمتُ به داعيًا إلى يومى هذا، ما رَكَنْتُ إلى الدنيا ولا أحببت الحياة فيها، وما دعانى إلى الخروج [إلَّا] الغضبُ لله. ولكن أحببتُ أعلم رأيكِ، فزدتنى قوة وبصيرة مع
---------------
(¬١) لدى ابن عساكر ص ٤٨١ وهو ينقل عن ابن سعد "البس" وما في الأصل هنا هو الموافق للسياق.
(¬٢) ابن عساكر ص ٤٨١ نقلا عن ابن سعد.
(¬٣) ابن عساكر ص ٤٨١ نقلا عن ابن سعد.
(¬٤) أورده الطبرى ج ٦ ص ١٨٨.