كتاب تفسير ابن كثير (قرطبة وأولاد الشيخ) (اسم الجزء: 10)

" يَعْنِي أَمَرَ وَزِيره هَامَان وَمُدَبِّر رَعِيَّته وَمُشِير دَوْلَته أَنْ يُوقِد لَهُ عَلَى الطِّين يَعْنِي يَتَّخِذ لَهُ آجُرًّا لِبِنَاءِ الصَّرْح وَهُوَ الْقَصْر الْمَنِيف الرَّفِيع الْعَالِي كَمَا قَالَ فِي الْآيَة الْأُخْرَى " وَقَالَ فِرْعَوْن يَا هَامَان اِبْن لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغ الْأَسْبَاب أَسْبَاب السَّمَاوَات فَأَطَّلِع إِلَى إِلَه مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْن سُوء عَمَله وَصُدَّ عَنْ السَّبِيل وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْن إِلَّا فِي تَبَاب " وَذَلِكَ لِأَنَّ فِرْعَوْن بَنَى هَذَا الصَّرْح الَّذِي لَمْ يُرَ فِي الدُّنْيَا بِنَاء أَعْلَى مِنْهُ إِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا أَنْ يُظْهِر لِرَعِيَّتِهِ تَكْذِيب مُوسَى فِيمَا زَعَمَهُ مِنْ دَعْوَى إِلَه غَيْر فِرْعَوْن وَلِهَذَا قَالَ : " وَإِنِّي لَأَظُنّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ " أَيْ فِي قَوْله أَنَّ ثَمَّ رَبًّا غَيْرِي لَا أَنَّهُ كَذَّبَهُ فِي أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَرْسَلَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْتَرِف بِوُجُودِ الصَّانِع جَلَّ وَعَلَا فَإِنَّهُ قَالَ : " وَمَا رَبّ الْعَالَمِينَ " وَقَالَ : " لَئِنْ اِتَّخَذْت إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ" وَقَالَ : " يَا أَيّهَا الْمَلَأ مَا عَلِمْت لَكُمْ مِنْ إِلَه غَيْرِي" وَهَذَا قَوْل اِبْن جَرِير .
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39)
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ

وَقَوْله تَعَالَى : " وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُوده فِي الْأَرْض بِغَيْرِ الْحَقّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ " أَيْ طَغَوْا وَتَجَبَّرُوا وَأَكْثَرُوا فِي الْأَرْض الْفَسَاد وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ لَا قِيَامَة وَلَا مَعَاد " فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبّك سَوْط عَذَاب إِنَّ رَبّك لَبِالْمِرْصَادِ " .
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ

قَالَ تَعَالَى هَهُنَا " فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُوده فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمّ " أَيْ أَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْبَحْر فِي صَبِيحَة وَاحِدَة فَلَمْ يَبْقَ سَهْم أَحَد " فَانْظُرْ كَيْف كَانَ عَاقِبَة الظَّالِمِينَ " .
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41)
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ

" وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّة يَدْعُونَ إِلَى النَّار" أَيْ لِمَنْ سَلَكَ وَرَاءَهُمْ وَأَخَذَ بِطَرِيقَتِهِمْ فِي تَكْذِيب الرُّسُل وَتَعْطِيل الصَّانِع " وَيَوْم الْقِيَامَة لَا يُنْصَرُونَ" أَيْ فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ خِزْي الدُّنْيَا مَوْصُولًا بِذُلِّ الْآخِرَة كَمَا قَالَ تَعَالَى : " أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِر لَهُمْ" .
وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)
وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ

قَوْله تَعَالَى : " وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَة " أَيْ وَشَرَعَ اللَّه لَعْنَتهمْ وَلَعْنَة مَلِكهمْ فِرْعَوْن عَلَى أَلْسِنَة الْمُؤْمِنِينَ مِنْ عِبَاده الْمُتَّبِعِينَ لِرُسُلِهِ كَمَا أَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا مَلْعُونُونَ عَلَى أَلْسِنَة الْأَنْبِيَاء وَأَتْبَاعهمْ كَذَلِكَ " وَيَوْم الْقِيَامَة هُمْ مِنْ الْمَقْبُوحِينَ " قَالَ قَتَادَة : وَهَذِهِ الْآيَة كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَة وَيَوْم الْقِيَامَة بِئْسَ الرِّفْد الْمَرْفُود " .
وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ

يُخْبِر تَعَالَى عَمَّا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى عَبْده وَرَسُوله مُوسَى الْكَلِيم عَلَيْهِ مِنْ رَبّه أَفْضَل الصَّلَاة وَالتَّسْلِيم مِنْ إِنْزَال التَّوْرَاة عَلَيْهِ بَعْدَمَا أَهْلَكَ فِرْعَوْن وَمَلَأَهُ.
وَقَوْله تَعَالَى : " مِنْ بَعْد مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُون الْأُولَى" يَعْنِي أَنَّهُ بَعْد إِنْزَال التَّوْرَاة لَمْ يُعَذِّب أُمَّة بِعَامَّةٍ بَلْ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُقَاتِلُوا أَعْدَاء اللَّه مِنْ الْمُشْرِكِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : " وَجَاءَ فِرْعَوْن وَمَنْ
465@@@

الصفحة 464