كتاب تفسير المنار (اسم الجزء: 5)

قَالَ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ (تِجَارَةً) بِالنَّصْبِ، أَيْ: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْأَمْوَالُ تِجَارَةً إِلَخْ، وَقَرَأَهَا الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ، وَالْمَعْنَى: إِلَّا أَنْ تُوجَدَ تِجَارَةٌ عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، قَالُوا: وَالْمَعْنَى: لَا تَقْصِدُوا إِلَى أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَلَكِنِ اقْصِدُوا أَنْ تَرْبَحُوا بِالتِّجَارَةِ الَّتِي تَكُونُ صَادِرَةً عَنِ التَّرَاضِي مِنْكُمْ، وَتَخْصِيصُهَا بِالذِّكْرِ دُونَ سَائِرِ أَسْبَابِ الْمُلْكِ لِكَوْنِهَا أَكْثَرَ وُقُوعًا وَأَوْفَقَ لِذَوِي الْمُرُوءَاتِ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ أَنَّهُمَا قَالَا: كَانَ الرَّجُلُ يَتَحَرَّجُ أَنْ يَأْكُلَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَنُسِخَ ذَلِكَ بِالْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ النُّورِ: وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ (24: 61) ، الْآيَةَ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّهَا مُحْكَمَةٌ مَا نُسِخَتْ وَلَا تُنْسَخُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَالُوا: إِنَّ الْآيَةَ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ مَا عَدَا رِبْحَ التِّجَارَةِ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ ـ أَيْ كَالْهَدِيَّةِ وَالْهِبَةِ ـ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِآيَةِ النُّورِ الْمُبِيحَةِ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ بُيُوتِ أَقَارِبِهِ وَأَصْدِقَائِهِ، وَهُوَ افْتِرَاءٌ عَلَى الدِّينِ لَا أَصِلَ لَهُ ـ أَيْ: لَمْ تَصِحَّ رِوَايَتُهُ عَمَّنْ عَزَى إِلَيْهِ ـ إِذْ لَا يُعْقَلُ أَنْ تَكُونَ الْهِبَةُ مُحَرَّمَةً فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَلَا مَا فِي مَعْنَاهَا كَإِقْرَاءِ الضَّيْفِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّحْرِيمُ فِيمَا يُمَانِعُ فِيهِ صَاحِبُ الْمَالِ فَيُؤْخَذُ بِدُونِ رِضَاهُ، أَوْ بِدُونِ عِلْمِهِ مَعَ الْعِلْمِ أَوِ الظَّنِّ بِأَنَّهُ لَا يَسْمَحُ بِهِ، وَإِنَّمَا اسْتَثْنَى اللهُ التِّجَارَةَ مِنْ عُمُومِ الْأَمْوَالِ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا الْأَكْلُ بِالْبَاطِلِ، أَيْ: بِدُونِ مُقَابِلٍ ; لِأَنَّ مُعْظَمَ أَنْوَاعِهَا يَدْخُلُ فِيهَا الْأَكْلُ بِالْبَاطِلِ، فَإِنَّ تَحْدِيدَ قِيمَةِ الشَّيْءِ وَجَعْلَ عِوَضِهِ أَوْ ثَمَنِهِ عَلَى قَدْرِهِ بِقِسْطَاسِ الْحَقِّ الْمُسْتَقِيمِ عَزِيزٌ وَعَسِيرٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُحَالًا.
فَالْمُرَادُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ التَّسَامُحُ بِمَا يَكُونُ فِيهِ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ أَكْبَرَ مِنَ الْآخَرِ، وَمَا يَكُونُ سَبَبُ التَّعَاوُضِ فِيهِ بَرَاعَةَ التَّاجِرِ فِي تَزْيِينِ سِلْعَتِهِ وَتَرْوِيجِهَا بِزُخْرُفِ الْقَوْلِ مِنْ غَيْرِ غِشٍّ وَلَا خِدَاعٍ، وَلَا تَغْرِيرٍ كَمَا يَقَعُ ذَلِكَ كَثِيرًا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَثِيرًا مَا يَشْتَرِي الشَّيْءَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ شَدِيدَةٍ إِلَيْهِ، وَكَثِيرًا مَا يَشْتَرِيهِ بِثَمَنٍ يُعْلَمُ أَنَّهُ يُمْكِنُ ابْتِيَاعُهُ بِأَقَلَّ مِنْهُ مِنْ مَكَانٍ آخَرَ، وَلَا يَكُونُ سَبَبُ ذَلِكَ إِلَّا خِلَابِةَ التَّاجِرِ وَزُخْرُفَهُ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصِّدْقِ، وَاتِّقَاءِ التَّغْرِيرِ وَالْغِشِّ، فَيَكُونُ مِنْ بَاطِلِ التِّجَارَةِ الْحَاصِلَةِ بِالتَّرَاضِي، وَهُوَ الْمُسْتَثْنَى، وَالْحِكْمَةُ فِي إِبَاحَةِ ذَلِكَ التَّرْغِيبُ فِي التِّجَارَةِ لِشِدَّةِ حَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهَا وَتَنْبِيهِ النَّاسِ إِلَى اسْتِعْمَالِ مَا أُوتُوا مِنَ الذَّكَاءِ وَالْفِطْنَةِ فِي اخْتِبَارِ الْأَشْيَاءِ، وَالتَّدْقِيقِ فِي الْمُعَامَلَةِ حِفْظًا لِأَمْوَالِهِمُ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ لَهُمْ قِيَامًا أَنْ يَذْهَبَ شَيْءٌ مِنْهَا بِالْبَاطِلِ، أَيْ: بِدُونِ مَنْفَعَةٍ تُقَابِلُهَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا خَرَجَ بِهِ الرِّبْحُ الْكَثِيرُ الَّذِي يَكُونُ بِغَيْرِ غِشٍّ وَلَا تَغْرِيرٍ، بَلْ بِتَرَاضٍ لَمْ تَنْخَدِعْ فِيهِ إِرَادَةُ الْمَغْبُونِ، وَلَوْ لَمْ يُبِحْ مِثْلَ هَذَا لَمَا رُغِبَ فِي التِّجَارَةِ، وَلَا اشْتَغَلَ بِهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ

الصفحة 35