كتاب تفسير المنار (اسم الجزء: 5)

وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، وَمِنْهَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: أَلَا أُنْبِئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: الْإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ وَقَالَ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ، وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَزِيَادَةٌ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قَالُوا: وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ، وَكَانَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَذْكُرُ فِي كُلِّ مَقَامٍ مَا تَمَسُّ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ، فَلَمْ يَرِدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي مَقَامِ الْحَصْرِ وَالتَّحْدِيدِ، وَلَكِنَّ الْأَحَادِيثَ صَرِيحَةٌ فِي إِثْبَاتِ الْكَبَائِرِ وَيُقَابِلُهَا الصَّغَائِرُ، وَالظَّاهِرُ مِنْهَا أَنَّ كِبَرَهَا فِي ذَوَاتِهَا وَأَنْفُسِهَا؛ لِمَا فِيهَا مِنَ الْمَفْسَدَةِ وَالضَّرَرِ،
وَالْمُوبِقَاتُ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ مِنْ أَوْبَقَهُ إِذَا أَهْلَكَهُ، أَوْ ذَلَّلَهُ، وَيُقَابِلُ الْمُوبَقَ مَا يَضُرُّ ضَرَرًا قَلِيلًا، وَمَا حَرَّمَ الْإِسْلَامُ شَيْئًا إِلَّا لِضَرَرِهِ فِي الدِّينِ أَوِ النَّفْسِ أَوِ الْعَقْلِ أَوِ الْمَالِ أَوِ الْعِرْضِ.
وَكَيْفَ يُنْكِرُ أَحَدٌ انْقِسَامَ الذُّنُوبِ إِلَى كَبَائِرَ وَغَيْرِ كَبَائِرَ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَهُوَ مِنْ ذَاتِهِ بَدِيهِيٌّ ـ كَمَا قَالَ الْغَزَالِيُّ ـ فَإِنَّ الْمَنْهِيَّاتِ أَنْوَاعٌ لَهَا أَفْرَادٌ تَتَفَاوَتُ فِي أَنْفُسِهَا وَفِي الدَّاعِيَةِ النَّفْسِيَّةِ الَّتِي تَسُوقُ إِلَيْهَا.
قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ جَزَاءِ الْمُسِيئِينَ وَالْمُحْسِنِينَ فِي سُورَةِ النَّجْمِ: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ 53: 32] ، وَالْفَوَاحِشُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْكَبَائِرِ، وَهِيَ مَا فَحُشَ مِنَ الْفَعَائِلِ الْقَبِيحَةِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تُنَاسِبُ الْآيَةَ الَّتِي نَفْسُهَا فِي مَعْنَاهَا بِذَاتِهَا وَمَوْقِعِهَا مِمَّا قَبْلَهَا، فَقَدْ عَبَّرَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، وَجَعَلَ جَزَاءَ هَذَا الِاجْتِنَابِ تَكْفِيرَ مَا دُونَ الْكَبَائِرِ وَالْفَوَاحِشِ وَغُفْرَانَهُ، وَلَكِنَّهُ عَبَّرَ عَنْ مُقَابِلِ الْكَبَائِرِ هُنَا بِالسَّيِّئَاتِ وَهُوَ لَفْظٌ يَشْمَلُ الصَّغَائِرَ وَالْكَبَائِرَ كَمَا عُلِمَ مِنَ اسْتِعْمَالِهِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَعَبَّرَ فِي سُورَةِ النَّجْمِ بِاللَّمَمِ، وَفَسَّرُوا اللَّمَمَ بِمَا قَلَّ وَصَغُرَ مِنَ الذُّنُوبِ، كَمَا فَسَّرُوا السَّيِّئَاتِ هُنَا بِالصَّغَائِرِ وَمَا أَخَذُوا ذَلِكَ إِلَّا مِنَ الْمُقَابَلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ يَكُونُ اللَّمَمُ بِمَعْنَى مُقَارَبَةِ الْكَبِيرَةِ أَوِ الْفَاحِشَةِ بِإِتْيَانِ بَعْضِ مُقَدِّمَاتِهَا مَعَ اجْتِنَابِ اقْتِرَافِهَا، مِنْ أَلَمَّتِ النَّخْلَةُ إِذْ قَارَبَتِ الْإِرْطَابَ وَأَلَمَّ الْغُلَامُ إِذَا قَارَبَ الْبُلُوغَ، وَسَيَأْتِي مِنْ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ فِي تَكْفِيرِ الذُّنُوبِ مَا يُوَضِّحُهُ بِالْأَمْثِلَةِ، وَمِنَ التَّنَاسُبِ الْمُتَعَلِّقِ بِالسِّيَاقِ أَنَّهُ عَلَّلَ فِي سُورَةِ النَّجْمِ مَغْفِرَةَ اللَّمَمِ بِعِلْمِ اللهِ تَعَالَى بِحَالِ الْإِنْسَانِ فِي خُرُوجِهِ مِنْ مَوَادِّ الْأَرْضِ الْمَيِّتَةِ تَكُونُ غِذَاءً

الصفحة 40