كتاب تفسير المنار (اسم الجزء: 5)

ذَلِكَ يُعَدُّ صَغِيرَةً، وَأَمَّا قَتْلُهُ إِيَّاهُ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَدَّ صَغِيرَةً فِي نَفْسِهِ مَهْمَا كَانَ الْبَاعِثُ النَّفْسِيُّ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ مَسْأَلَةَ تَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ وَعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ تَتَعَلَّقُ بِمَقَاصِدِ النَّفْسِ وَقُوَّةِ الْإِيمَانِ وَسُلْطَانِهِ فِي الْقَلْبِ، وَهُوَ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْغَزَالِيُّ وَتَبِعَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَإِنَّنَا نَنْقُلُ عَنِ الْغَزَالِيِّ نُبَذًا تَدُلُّ عَلَى رَأْيِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
قَالَ الرَّازِيُّ: وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي مُنْتَخَبَاتِ كِتَابِ إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ فَصْلًا طَوِيلًا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ، فَقَالَ: فَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْكَبَائِرَ تَمْتَازُ عَنِ الصَّغَائِرِ بِحَسَبِ ذَوَاتِهَا وَأَنْفُسِهَا.
وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنْ لِكُلِّ طَاعَةٍ قَدْرًا مِنَ الثَّوَابِ، وَلِكُلِّ مَعْصِيَةٍ قَدْرًا مِنَ الْعِقَابِ، فَإِذَا أَتَى الْإِنْسَانُ بِطَاعَةٍ وَاسْتَحَقَّ بِهَا ثَوَابًا، ثُمَّ أَتَى بِمَعْصِيَةٍ وَاسْتَحَقَّ بِهَا عِقَابًا فَهَاهُنَا الْحَالُ بَيْنَ ثَوَابِ الطَّاعَةِ، وَعِقَابِ الْمَعْصِيَةِ بِحَسَبِ الْقِسْمَةِ الْعَقْلِيَّةِ يَقَعُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَتَعَادَلَا وَيَتَسَاوَيَا، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا بِحَسَبِ التَّقْسِيمِ الْعَقْلِيِّ إِلَّا أَنَّهُ دَلَّ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُوجَدُ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (42: 7) .
(وَالْقِسْمُ الثَّانِي) : أَنْ يَكُونَ ثَوَابُ طَاعَةٍ أَزْيَدَ مِنْ عُقَابِ مَعْصِيَةٍ، وَحِينَئِذٍ يَنْحَبِطُ ذَلِكَ بِمَا يُسَاوِيهِ مِنَ الثَّوَابِ وَيَفْضُلُ مِنَ الثَّوَابِ شَيْءٌ، وَمِثْلُ هَذِهِ
الْمَعْصِيَةِ هِيَ الصَّغِيرَةُ، وَهَذَا الِانْحِبَاطُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالتَّكْفِيرِ.
(وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ) : أَنْ يَكُونَ عِقَابُ مَعْصِيَتِهِ أَزْيَدَ مِنْ ثَوَابِ طَاعَتِهِ، وَحِينَئِذٍ يَنْحَبِطُ ذَلِكَ الثَّوَابُ بِمَا يُسَاوِيهِ مِنَ الْعِقَابِ، وَيَفْضُلُ مِنَ الْعِقَابِ شَيْءٌ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ هِيَ الْكَبِيرَةُ وَهَذَا الِانْحِبَاطُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْإِحْبَاطِ ; وَبِهَذَا الْكَلَامِ ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْكَبِيرَةِ وَبَيْنَ الصَّغِيرَةِ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُعْتَزِلَةِ.
ثُمَّ رَدَّ الرَّازِيُّ هَذَا الْكَلَامَ قَالَ: لَا لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أُصُولٍ بَاطِلَةٍ عِنْدَنَا، أَيْ: عِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَذَكَرَ مِنْهَا كَوْنَ الطَّاعَةِ تُوجِبُ الثَّوَابَ، وَالْمَعْصِيَةِ تُوجِبُ الْعِقَابَ، وَمِنْهَا الْقَوْلُ بِالْإِحْبَاطِ، وَبِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَسْتَحِقُّ بِعَمَلِهِ الصَّالِحِ جَزَاءً، وَكُلُّ ذَلِكَ مَرْدُودٌ عِنْدَهُ، لَا أَدْرِي أَنَقَلَ الرَّازِيُّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ بِنَصِّهَا أَمْ بِمَعْنَاهَا، وَلَكِنْ أَقُولُ عَلَى الْحَالَيْنِ: إِنَّ تَوْجِيهَ الرَّجُلِ ذَكَاءَهُ لِمُنَاقَشَةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَتَفْنِيدِ أَقْوَالِهِمْ، وَنَصْرِ الْأَشَاعِرَةِ وَتَأْيِيدِ مَذْهَبِهِمْ قَدْ شَغَلَهُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ عَنِ اسْتِبَانَةِ الْحَقِيقَةِ فِي نَفْسِهَا، فَعِبَارَةُ الْغَزَالِيِّ الَّتِي ذَكَرَهَا لَيْسَ فِيهَا ذِكْرٌ لِإِيجَابِ الطَّاعَةِ الثَّوَابَ وَالْمَعْصِيَةِ الْعِقَابَ، وَإِنَّمَا حَرَّكَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي خَيَالِهِ ذِكْرُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ اسْتِحْقَاقَ الْعَامِلِ الثَّوَابَ عَلَى الطَّاعَةِ، وَالْعِقَابَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَهَذَا الِاسْتِحْقَاقُ

الصفحة 43