كتاب تفسير المنار (اسم الجزء: 5)

فِي هَذَا التَّفْضِيلِ النُّبُوَّةُ وَالْإِمَامَةُ الْكُبْرَى وَالصُّغْرَى، وَإِقَامَةُ الشَّعَائِرِ كَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالْخُطْبَةِ فِي الْجُمْعَةِ، وَغَيْرِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْمَزَايَا تَابِعَةٌ لِكَمَالِ اسْتِعْدَادِ الرِّجَالِ، وَعَدَمِ الشَّاغِلِ لَهُمَا عَنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ، عَلَى مَا فِي النُّبُوَّةِ مِنَ الِاصْطِفَاءِ وَالِاخْتِصَاصِ، وَلَكِنْ لَيْسَتْ هِيَ أَسْبَابَ قِيَامِ الرِّجَالِ عَلَى شُئُونِ النِّسَاءِ، وَإِنَّمَا السَّبَبُ هُوَ مَا أُشِيرَ إِلَيْهِ بِبَاءِ السَّبَبِيَّةِ؛ لِأَنَّ النُّبُوَّةَ اخْتِصَاصٌ لَا يُبْنَى عَلَيْهَا مِثْلُ هَذَا الْحُكْمِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يُبْنَى عَلَيْهَا أَنَّ كَلَّ رَجُلٍ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ امْرَأَةٍ ; لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا رِجَالًا، وَأَمَّا الْإِمَامَةُ وَالْخُطْبَةُ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا مِمَّا ذَكَرُوهُ ; فَإِنَّمَا كَانَ لِلرِّجَالِ بِالْوَضْعِ الشَّرْعِيِّ، فَلَا يَقْتَضِي أَنْ يُمَيِّزُوا بِكُلِّ حُكْمٍ، وَلَوْ جَعَلَ الشَّرْعُ لِلنِّسَاءِ أَنْ يَخْطُبْنَ فِي الْجُمُعَةِ وَالْحَجِّ، وَيُؤَذِّنَّ وَيُقِمْنَ الصَّلَاةَ لَمَا كَانَ ذَلِكَ مَانِعًا أَنْ يَكُونَ مِنْ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ أَنْ يَكُونَ الرِّجَالُ قَوَّامِينَ عَلَيْهِنَّ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ يَغْفُلُونَ عَنِ الرُّجُوعِ إِلَى سُنَنِ الْفِطْرَةِ فِي تَعْلِيلِ حِكْمَةِ أَحْكَامِ دِينِ الْفِطْرَةِ، وَيَلْتَمِسُونَ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ أَحْكَامٍ أُخْرَى.
قَالَ تَعَالَى: فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ هَذَا تَفْصِيلٌ لِحَالِ النِّسَاءِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الْمَنْزِلِيَّةِ الَّتِي تَكُونُ الْمَرْأَةُ فِيهَا تَحْتَ رِيَاسَةِ الرَّجُلِ، ذُكِرَ أَنَّهُنَّ فِيهَا قِسْمَانِ: صَالِحَاتٌ وَغَيْرُ صَالِحَاتٍ، وَأَنَّ مِنْ صِفَةِ الصَّالِحَاتِ الْقُنُوتَ، وَهُوَ السُّكُونُ وَالطَّاعَةُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَكَذَا لِأَزْوَاجِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَحِفْظِ الْغَيْبِ.
قَالَ الثَّوْرِيُّ وَقَتَادَةُ: حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ يَحْفَظْنَ فِي غَيْبَةِ الْأَزْوَاجِ مَا يَجِبُ حِفْظُهُ فِي النَّفْسِ وَالْمَالِ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: خَيْرُ النِّسَاءِ الَّتِي إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا سَرَّتْكَ، وَإِذَا أَمَرْتَهَا أَطَاعَتْكَ، وَإِذَا
غِبْتَ عَنْهَا حَفِظَتْكَ فِي مَالِكَ وَنَفْسِهَا وَقَرَأَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْآيَةَ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْغَيْبُ هُنَا هُوَ مَا يُسْتَحْيَا مِنْ إِظْهَارِهِ، أَيْ: حَافِظَاتٌ لِكُلِّ مَا هُوَ خَاصٌّ بِأُمُورِ الزَّوْجِيَّةِ الْخَاصَّةِ بِالزَّوْجَيْنِ، فَلَا يَطَّلِعُ أَحَدٌ مِنْهُنَّ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا هُوَ خَاصٌّ بِالزَّوْجِ.
أَقُولُ: وَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ هَذَا وُجُوبُ كِتْمَانِ مَا يَكُونُ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ فِي الْخَلْوَةِ، وَلَا سِيَّمَا حَدِيثُ الرَّفَثِ، فَمَا بَالُكَ بِحِفْظِ الْعِرْضِ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ هِيَ أَبْلَغُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ دَقَائِقِ كِنَايَاتِ النَّزَاهَةِ، تَقْرَؤُهَا خَرَائِدُ الْعَذَارَى جَهْرًا، وَيَفْهَمْنَ مَا تُومِئُ إِلَيْهِ مِمَّا يَكُونُ سِرًّا، وَهُنَّ عَلَى بُعْدٍ مِنْ خَطَرَاتِ الْخَجَلِ أَنْ تَمَسَّ وِجْدَانَهُنَّ الرَّقِيقَ بِأَطْرَافِ أَنَامِلِهَا، فَلِقُلُوبِهِنَّ الْأَمَانُ مِنْ تِلْكَ الْخَلَجَاتِ الَّتِي تَدْفَعُ الدَّمَ إِلَى الْوَجَنَاتِ، نَاهِيكَ بِوَصْلِ حِفْظِ الْغَيْبِ.
بِمَا حَفِظَ اللهُ فَالِانْتِقَالُ السَّرِيعُ مِنْ ذِكْرِ ذَلِكَ الْغَيْبِ الْخَفِيِّ إِلَى ذِكْرِ اللهِ الْجَلِيِّ، يَصْرِفُ النَّفْسَ عَنِ التَّمَادِي فِي التَّفَكُّرِ فِيمَا يَكُونُ وَرَاءَ الْأَسْتَارِ مِنْ تِلْكَ الْخَفَايَا وَالْأَسْرَارِ، وَتَشْغَلُهَا بِمُرَاقَبَتِهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَفَسَّرُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: بِمَا حَفِظَ اللهُ بِمَا حَفِظَهُ لَهُنَّ فِي مُهُورِهِنَّ وَإِيجَابِ النَّفَقَةِ لَهُنَّ، يُرِيدُونَ أَنَّهُنَّ تَحْفَظْنَ حَقَّ الرِّجَالِ فِي غَيْبَتِهِمْ جَزَاءَ الْمَهْرِ وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ الْمَحْفُوظَيْنِ

الصفحة 58