كتاب تفسير المنار (اسم الجزء: 5)

وَالشَّوَاهِدُ عَلَى هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَأَوَّلُ مَا خَطَرَ فِي بَالِي مِنْهَا عِنْدَ الْكِتَابَةِ الْآنَ اثْنَانِ: شَابٌّ عَاشِقٌ لِلْعِلْمِ كَانَ أَبُوهُ يَمْنَعُهُ مِنْهُ لِيَشْتَغِلَ بِالتِّجَارَةِ الَّتِي يَنْفِرُ مِنْهَا لِتَوَجُّهِ اسْتِعْدَادِهِ إِلَى الْعِلْمِ، فَفَرَّ مِنْ بَلَدِهِ إِلَى قُطْرٍ آخَرَ، ثُمَّ إِلَى قُطْرٍ آخَرَ، يَرْكَبُ الْأَهْوَالَ، وَيُصَارِعُ أَنْوَاءَ الْبِحَارِ، وَيُعْجِمُ عُودَ الذُّلِّ وَالضُّرِّ، وَيَذُوقُ طُعُومَ الْجُوعِ وَالْفَقْرِ، وَرَجُلٌ دُعِيَ إِلَى دَارٍ خَيْرٍ مِنْ دَارِهِ، وَقَرَارٍ أَشْرَفَ مِنْ قَرَارِهِ، وَرِزْقٍ أَوْسَعَ مِنْ رِزْقِهِ، فِي عَمَلٍ أَفْضَلَ مِنْ عَمَلِهِ، وَأَمَلٍ فِي الْكَمَالِ أَعْلَى مِنْ سَابِقِ أَمَلِهِ، وَرَجَاءٍ فِي ثَوَابِ اللهِ أَعْظَمَ مِنْ رَجَائِهِ، فَاسْتَشْرَفَتْ لَهُ نَفْسُهُ، وَاطْمَأَنَّ بِهِ قَلْبُهُ، وَلَكِنَّ وَالِدَتَهُ مَنَعَتْهُ أَنْ يُجِيبَ الدَّعْوَةَ وَيَقْبَلَ النِّعْمَةَ، لَا حُبًّا فِيهِ، فَإِنَّهَا لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُمَارِيَ فِي أَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ، وَلَكِنْ حُبًّا فِي نَفْسِهَا، وَإِيثَارًا لِلَذَّتِهَا وَأُنْسِهَا، نَعَمْ إِنَّ الْعَجُوزَ أَلِفَتْ بَيْتَهَا وَمَنْ تُعَاشِرُ فِي بَلَدِهَا مِنَ الْأَهْلِ وَالْجِيرَانِ، فَآثَرَتْ لَذَّةَ الْبِيئَةِ الدُّنْيَا لِنَفْسِهَا، عَلَى الْمَنْفَعَةِ الْعُلْيَا لِوَلَدِهَا، وَلَعَلَّهُ لَوِ اخْتَارَ الظَّعْنَ
لَاخْتَارَتِ الْإِقَامَةَ، وَفَضَّلَتْ فِرَاقَهُ عَلَى صُحْبَتِهِ، وَبُعْدَهُ عَلَى قُرْبِهِ، وَنَبَزَتْهُ بِلَقَبِ الْعَاقِّ، وَادَّعَتْ أَنَّهَا لَمْ تَتَعَدَّ حُدُودَ الرَّحْمَةِ وَالْحَنَانِ، وَوَافَقَهَا الْجُمْهُورُ الْجَاهِلُ عَلَى ذَلِكَ لِبِنَائِهِ الْأَحْكَامَ عَلَى الْمُسَلَّمَاتِ، وَمِنْهَا أَنَّ الْأَوْلَادَ هُمُ الَّذِينَ يُؤْثِرُونَ أَهْوَاءَهُمْ عَلَى بِرِّ وَالِدَيْهِمْ، وَأَنَّ الْوَالِدَيْنِ لَا يَخْتَارَانِ لِوَلَدِهِمَا إِلَّا مَا فِيهِ الْخَيْرُ لَهُ، وَأَنَّهُمَا يَتْرُكَانِ كُلَّ حُظُوظِهِمَا وَرَغَائِبِهِمَا لِأَجْلِهِ، وَلَا يُنْكِرُ أَحَدٌ أَنَّ لِهَذَا أَصْلًا صَحِيحًا، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ الدَّائِمَةِ، أَمَّا الْأُمُّ فَذَلِكَ شَأْنُهَا مَعَ الطِّفْلِ إِلَّا مَا تَأْتِي بِهِ بَوَادِرُ الْغَضَبِ مِنْ لَطْمَةٍ خَفِيفَةٍ تَسْبِقُ بِهَا الْيَدُ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ وَاخْتِيَارٍ، أَوْ دَعْوَةٍ ضَعِيفَةٍ تُعَدُّ مِنْ فَلَتَاتِ اللِّسَانِ، وَلِسَانُ حَالِهَا يُنْشِدُ:
أَدْعُو عَلَيْهِ وَقَلْبِي ... يَقُولُ: يَا رَبِّ لَا لَا
فَإِذَا كَبِرَ وَصَارَ لَهُ رَأْيٌ غَيْرُ رَأْيِهَا، وَهَوًى غَيْرُ هَوَاهَا ـ وَذَلِكَ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ ـ تَغَيَّرَ شَأْنُهَا مَعَهُ، وَهِيَ أَشَدُّ النَّاسِ حُبًّا لَهُ، فَلَا تُرَجِّحُ رَأْيَهُ وَهَوَاهُ فِي كُلِّ مَسَائِلِ الْخِلَافِ، بَلْ لَا تَعْذُرُهُ أَيْضًا فِي كُلِّ مَا يَتْبَعُ فِيهِ وُجْدَانَهُ، وَيُرَجِّحُ فِيهِ اسْتِقْلَالَهُ، وَأَمَّا الْأَبُ فَهُوَ عَلَى فَضْلِهِ وَعِنَايَتِهِ بِأَمْرِ وَلَدِهِ أَضْعَفُ مِنَ الْأُمِّ حُبًّا وَرَحْمَةً وَإِيثَارًا، وَأَشَدُّ اسْتِنْكَارًا لِاسْتِقْلَالِ وَلَدِهِ دُونَهُ وَاسْتِكْبَارًا، حَتَّى إِنَّهُ لَيَقْسُو عَلَيْهِ وَيُؤْذِيهِ، وَيَشْمَتُ بِهِ وَيَحْرِمُهُ مِنْ مَالِهِ وَيُؤْثِرُ الْأَجَانِبَ عَلَيْهِ، وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الْأَبِ الْغَنِيِّ مَعَ وَلَدِهِ الْمُحْتَاجِ إِذَا خَالَفَ هَوَاهُ: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (96: 6، 7) ، وَإِنَّ طُغْيَانَهُ يَكُونُ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى لِنَفْسِهِ مِنَ السُّلْطَةِ وَالْفَضْلِ وَالِاسْتِعْلَاءِ حَتَّى إِنَّهُ لِيَنْتَحِلُّ لِنَفْسِهِ صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَيَتَسَلَّقُ بِغُرُورِهِ إِلَى ادِّعَاءِ الْأُلُوهِيَّةِ: وَقَدْ كُنْتُ أُنْكِرُ عَلَى أَبِي الطَّيِّبِ قَوْلَهُ:
وَالظُّلْمُ مِنْ شِيَمِ النُّفُوسِ فَإِنْ تَجِدْ ... ذَا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لَا يَظْلِمُ

الصفحة 71