كتاب تفسير المنار (اسم الجزء: 5)

وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ، وَإِلَّا فَكَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُهُمْ وَيَكُونُ مُوَافِقًا لِلنَّصِّ وَمُنْطَبِقًا عَلَى حِكْمَةِ الشَّرْعِ؟
الْحَقُّ أَنَّ الِاسْتِرْقَاقَ فِيهِ مَفَاسِدُ كَثِيرَةٌ، وَهُوَ مُنَافٍ لِمَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَحِكَمِهِ الْعَالِيَةِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ كَانَ مِمَّا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى بَيْنَ الْأُمَمِ ; فَلِذَلِكَ لَمْ يَمْنَعْهُ مَنْعًا باتًّا وَلَكِنَّهُ خَفَّفَ مَصَائِبَهُ وَمَهَّدَ السُّبُلَ لِمَنْعِهِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ وَقْتٌ تَقْتَضِي فِيهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ مَنْعَهُ مَعَ عَدَمِ وُجُودِ مَفْسَدَةٍ تُعَارِضُ الْمَنْعَ وَتُرَجِّحُ عَلَيْهِ، كَانَ لِأُولِي الْأَمْرِ مَنْعُهُ ; فَإِنَّ الْمَصْلَحَةَ أَصْلٌ فِي الْأَحْكَامِ السِّيَاسِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي غَيْرِ تَحْلِيلِ الْمُحَرَّمَاتِ أَوْ إِبْطَالِ الْوَاجِبَاتِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَحَلَّ إِبَاحَةِ الِاسْتِرْقَاقِ الْحَرْبُ الدِّينِيَّةُ الَّتِي يُحَارِبُنَا فِيهَا الْكُفَّارُ، وَنُحَارِبُهُمْ لِأَجْلِ دِينِنَا كَمَنْعِنَا مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ وَإِقَامَةِ شَعَائِرِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَقَدْ خَيَّرَ اللهُ تَعَالَى أُولِي الْأَمْرِ مِنَّا فِي أَسْرَى هَذِهِ الْحَرْبِ لِقَوْلِهِ: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً (47: 4) ، أَيْ: فَإِمَّا أَنْ تَمُنُّوا عَلَيْهِمْ وَتُطْلِقُوهُمْ فَضْلًا وَإِحْسَانًا، وَإِمَّا أَنْ تَأْخُذُوا مِنْهُمْ فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، (47: 4) ، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: أَيْ: آلَاتَهَا وَأَثْقَالَهَا الَّتِي لَا تَقُومُ إِلَّا بِهَا كَالسِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ، أَيْ: حَتَّى تَنْقَضِيَ الْحَرْبُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مُسْلِمٌ أَوْ مُسَالِمٌ اهـ، وَالْمُسَالِمُ مَنْ لَا يُحَارِبُ
الْمُسْلِمِينَ لِأَجْلِ دِينِهِمْ، فَإِذَا جَازَ لَنَا أَنْ نَمُنَّ عَلَى الْأَسْرَى مِنَ الرِّجَالِ الْمُحَارِبِينَ الَّذِينَ يُخْشَى أَنْ يَعُودُوا إِلَى حَرْبِنَا، أَفَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَمُنَّ عَلَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا ضَرَرَ مِنْ إِطْلَاقِهِنَّ وَقَدْ يَكُونُ الضَّرَرُ فِي اسْتِرْقَاقِهِنَّ؟ وَنَاهِيكَ بِالتَّنْفِيرِ عَنِ الْإِسْلَامِ وَتَأْرِيثِ الْفِتَنِ بَيْنَ أَهْلِهِ وَسَائِرِ الْأَقْوَامِ، فَإِنَّ ضَرَرَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَوْقَ كُلِّ ضَرَرٍ، وَمَفْسَدَتَهُ شَرٌّ مِنْ كُلِّ مَفْسَدَةٍ.
هَذَا وَلَا بُدَّ مِنَ التَّنْبِيهِ هُنَا إِلَى مَسْأَلَةٍ يَجْهَلُهَا الْعَوَامُّ، وَقَدْ سَكَتَ عَنْ بَيَانِ الْحَقِّ فِيهَا جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ، وَمَرَّتْ عَلَى ذَلِكَ الْقُرُونُ لَا الْأَعْوَامُ، وَقَدْ سَبَقَ التَّنْبِيهُ إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ فِي الْمَنَارِ وَهِيَ أَنَّ الِاسْتِرْقَاقَ الشَّائِعَ الْمَعْرُوفَ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَوِ الْعُصُورِ غَيْرُ شَرْعِيٍّ، سَوَاءٌ مَا كَانَ مِنْهُ فِي بِلَادِ السُّودَانِ، وَمَا كَانَ فِي بِلَادِ الْبِيضِ كَبَنَاتِ الشَّرَاكِسَةِ اللَّوَاتِي كُنَّ يُبَعْنَ فِي الْآسِتَانَةِ جَهْرًا قَبْلَ الدُّسْتُورِ وَكُلُّهُنَّ حَرَائِرُ مِنْ بَنَاتِ الْمُسْلِمِينَ الْأَحْرَارِ، وَمَعَ هَذَا كُنْتَ تَرَى الْعُلَمَاءَ سَاكِتِينَ عَنْ بَيْعِهِنَّ، وَالِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ بِغَيْرِ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ، وَحَتَّى لَوْ سَأَلْتَ الْفَقِيهَ عَنْ حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ شَرْحِهَا لَهُ لَأَفْتَاكَ بِأَنَّ هَذَا الِاسْتِرْقَاقَ مُحَرَّمٌ إِجْمَاعًا، وَرُبَّمَا قَالَ لَكَ: وَإِنَّ مُسْتَحِلَّ ذَلِكَ يَكْفُرُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْذَرُ بِالْجَهْلِ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِمَا يُعَلِّلُونَ بِهِ مِثْلَهُ وَهُوَ أَنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ.
وَقَدْ ذَكَرْتُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لِأَحَدِ أَهْلِ الْآسِتَانَةِ وَأَنَا أَكْتُبُ هَذَا وَسَأَلْتُهُ: هَلْ بَقِيَ لِهَذَا الرَّقِيقِ الْبَاطِلِ أَثَرٌ هُنَا بَعْدَ الدُّسْتُورِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَلَكِنَّهُ خَفِيٌّ وَغَيْرُ رَسْمِيٍّ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ يُوجَدُ فِي الْحِجَازِ أَيْضًا، وَمَاذَا يُمْكِنُ أَنْ نَعْمَلَ وَرَاءَ بَيَانِ حُرْمَةِ هَذَا الْعَمَلِ وَبَرَاءَةِ الْإِسْلَامِ مِنْهُ!

الصفحة 9