كتاب تفسير المنار (اسم الجزء: 7)

وَخَشَعُوا لِلْحَقِّ كَخُشُوعِهِمْ، عَقَّبَ عَلَيْهِ بِجَزَاءِ السَّيِّئِينَ إِلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ فَقَالَ:
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) الدَّالَّةُ عَلَى وَحْدَانِيَّتِنَا وَصِدْقِ رَسُولِنَا فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنَّا (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) أَيْ أُولَئِكَ دُونَ غَيْرِهِمْ هُمْ أَصْحَابُ تِلْكَ النَّارِ الْعَظِيمَةِ الْمُلَازِمُونَ لَهَا، الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ مَأْوَى سِوَاهَا أَعَاذَنَا اللهُ مِنْهَا.
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) .
بَدَأَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ السُّورَةَ بِآيَاتٍ مِنْ أَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالنُّسُكِ، وَمِنْهَا حِلُّ طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالتَّزَوُّجُ مِنْهُمْ، وَأَحْكَامُ الطَّهَارَةِ وَالْعَدْلُ، وَلَوْ فِي الْأَعْدَاءِ الْمُبْغِضِينَ، ثُمَّ جَاءَ بِهَذَا السِّيَاقِ الطَّوِيلِ فِي بَيَانِ أَهْلِ الْكِتَابِ
وَمُحَاجَّتِهِمْ، فَكَانَ أَوْفَى وَأَتَمَّ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَتَخَلَّلْهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْ آيَاتِ الْأَحْكَامِ وَالْوُعُودِ وَالْعِظَاتِ بَيَّنَّا مُنَاسَبَتُهَا لَهُ فِي مَوَاضِعِهَا، وَهَذِهِ الْآيَاتُ عَوْدٌ إِلَى أَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالنُّسُكِ الَّتِي بُدِئَتْ بِهَا السُّورَةُ، وَيَتْلُوهَا الْعَوْدُ إِلَى مُحَاجَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا عَلِمْتَ، فَمَجْمُوعُ آيَاتِ السُّورَةِ، فِي هَذَيْنِ الْمَوْضُوعَيْنِ، وَإِنَّمَا لَمْ تُجْعَلْ آيَاتُ الْأَحْكَامِ كُلُّهَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَتُجْعَلُ الْآيَاتُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ مُتَّصِلًا بَعْضُهَا بِبَعْضٍ فِي بَاقِيهَا لِمَا بَيَّنَّاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي حِكْمَةِ مَزْجِ الْمَسَائِلِ وَالْمَوْضُوعَاتِ فِي الْقُرْآنِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَثَانِي تُتْلَى دَائِمًا لِلِاهْتِدَاءِ بِهَا، لَا كِتَابًا فَنِّيًّا وَلَا قَانُونًا يُتَّخَذُ لِأَجْلِ مُرَاجَعَةِ كُلِّ مَسْأَلَةٍ مِنْ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنَ الْمَعَانِي فِي بَابٍ مُعَيَّنٍ.
عَلَى أَنَّ فِي نَظْمِهِ وَتَرْتِيبِ آيِهِ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلِفَةِ مَا يُدْهِشُ أَصْحَابَ الْأَفْهَامِ الدَّقِيقَةِ بِحُسْنِهِ وَتَنَاسُقِهِ، كَمَا تَرَى فِي مُنَاسَبَةِ هَذِهِ الْآيَاتِ لِمَا قَبِلَهَا مُبَاشَرَةً، زَائِدًا عَلَى مَا عَلِمْتَ آنِفًا مِنْ مُنَاسَبَتِهَا لِمَجْمُوعِ مَا تَقَدَّمَهَا مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا.
ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّ النَّصَارَى أَقْرَبُ النَّاسِ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا، وَذَكَرَ مِنْ سَبَبِ ذَلِكَ أَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا، فَكَانَ مِنْ مُقْتَضَى هَذَا أَنْ يَرْغَبَ الْمُؤْمِنُونَ فِي الرَّهْبَانِيَّةِ وَيَظُنَّ الْمَيَّالُونَ لِلتَّقَشُّفِ وَالزُّهْدِ أَنَّهَا مَرْتَبَةُ كَمَالِ تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَهِيَ إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِتَحْرِيمِ التَّمَتُّعِ بِالطَّيِّبَاتِ طَبْعًا مِنَ اللُّحُومِ وَالْأَدْهَانِ وَالنِّسَاءِ، إِمَّا دَائِمًا كَامْتِنَاعِ الرُّهْبَانِ مِنْ

الصفحة 16