كتاب تفسير المنار (اسم الجزء: 7)

وَبَيَانُ الدَّفْعِ: أَنَّ تَزْكِيَةَ الْأَنْفُسِ إِنَّمَا تَكُونُ بِإِيقَافِهَا عِنْدَ حَدِّ الِاعْتِدَالِ، وَاجْتِذَابِ التَّفْرِيطِ وَالْإِفْرَاطِ، وَقَدْ خَلَقَ اللهُ الْإِنْسَانَ مُرَكَّبًا مِنْ رُوحٍ مَلَكِيَّةٍ وَجَسَدٍ حَيَوَانِيٍّ، فَلَمْ يَجْعَلْهُ مَلَكًا مَحْضًا، وَلَا حَيَوَانًا مَحْضًا، وَسَخَّرَ لَهُ بِهَذِهِ الْمَزِيَّةِ جَمِيعَ مَا فِي عَالَمِهِ الَّذِينَ يَعِيشُ فِيهِ مِنَ الْمَوَادِّ وَالْقُوَى وَالْأَحْيَاءِ، وَجَعَلَ مِنْ سُنَّتِهِ فِي خَلْقِهِ أَنَّهُ تَكُونُ سَلَامَةُ الْبَدَنِ وَصِحَّتُهُ مِنْ أَسْبَابِ سَلَامَةِ الْعَقْلِ وَسَائِرِ قُوَى النَّفْسِ، وَلِذَلِكَ حَرَّمَ عَلَيْهِ مَا يَضُرُّ بِجَسَدِهِ، كَمَا حَرَّمَ عَلَيْهِ مَا يَضُرُّ بِرُوحِهِ وَعَقْلِهِ، وَمَنْ ضَعُفَ جَسَدُهُ، عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالْكَسْبِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ لِلنَّفَقَةِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُمْ، وَعَلَى مَصَالِحِ أُمَّتِهِ الْعَامَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَعْجِزْ عَنِ الْقِيَامِ بِهَا كُلِّهَا، عَجَزَ عَنْ بَعْضِهَا، أَوْ مِنَ الْكَمَالِ فِيهَا غَالِبًا، كَمَا أَنَّهُ يَقِلُّ نَسْلُهُ وَيَجِيءُ قَمِيئًا ضَعِيفًا أَوْ يَنْقَطِعُ الْبَتَّةَ، وَيَكُونُ بِذَلِكَ مُسِيئًا إِلَى نَفْسِهِ وَإِلَى الْأُمَّةِ، وَالتَّمَتُّعُ بِالطَّيِّبَاتِ مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا اعْتِدَاءٍ لِحُدُودِ اللهِ وَسُنَنِ فِطْرَتِهِ هُوَ الَّذِي يُؤَدَّى بِهِ حَقُّ الْجَسَدِ وَحَقُّ الرُّوحِ، وَيُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى أَدَاءِ حُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ خَلْقِهِ، فَإِنْ صَحِبَتْهُ التَّقْوَى فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ تَتِمُّ التَّزْكِيَةُ الْمَطْلُوبَةُ.
لَا نُنْكِرُ مَعَ هَذَا أَنَّ مَنْعَ النَّفْسِ مِنَ الشَّهَوَاتِ الْمُبَاحَةِ أَحْيَانًا مِمَّا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى
تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَتَرْبِيَةِ الْإِرَادَةِ، وَحَسْبُنَا مِنْهُ مَا شَرَعَ اللهُ لَنَا مِنَ الصِّيَامِ، وَهُوَ مِمَّا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ التَّقْوَى فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيَّنَ لَنَا أَنَّ حِكْمَةَ الصِّيَامِ وَسَبَبَ شَرْعِهِ كَوْنُهُ مَرْجُوًّا لِتَحْصِيلِ مَلَكَةَ التَّقْوَى إِذْ قَالَ: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (2: 183) وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْجُزْءِ الثَّانِي وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى، فَالصِّيَامُ رِيَاضَةٌ بَدَنِيَّةٌ نَفْسِيَّةٌ، وَجَمَعَ بَيْنَ حِرْمَانِ النَّفْسِ مِنْ لَذَّاتِهَا بِقَصْدِ التَّرْبِيَةِ، وَبَيْنَ تَمَتُّعِهَا بِهَا تَوَسُّلًا إِلَى شُكْرِ النِّعْمَةِ وَالْقِيَامِ بِالْخِدْمَةِ، أَمَّا مَا قِيلَ مِنَ اسْتِغْنَاءِ النَّاسِ بِدَاعِيَةِ الطَّبْعِ عَنْ أَمْرِ الشَّرْعِ بِهَذَا التَّمَتُّعِ، فَهُوَ مَدْفُوعٌ بِمَا أَحْدَثَهُ حُبُّ الْغُلُوِّ فِي كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مِنَ الْجِنَايَةِ عَلَى أَبْدَانِهِمْ وَعُقُولِهِمْ وَأُمَمِهِمْ بِتَرْكِ طَيِّبَاتِ الطَّعَامِ وَالنِّسَاءِ، وَأَمَّا مَا يُقَالُ لِلْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا) فَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ جَعَلُوا كُلَّ هَمِّهِمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا التَّمَتُّعَ الْجَسَدِيَّ وَلَوْ بِالْحَرَامِ، فَلَمْ يُعْطُوا إِنْسَانِيَّتَهُمْ حَقَّهَا بِالْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَقْوَى اللهِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ النَّعِيمِ الرُّوحَانِيِّ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) (47: 12) .
فَتَبَيَّنَ مِمَّا شَرَحْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ أَنَّ هَدْيَ الْقُرْآنِ فِي الطَّيِّبَاتِ أَيِ الْمُسْتَلَذَّاتِ هُوَ مَا تَقْتَضِيهِ الْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ الْمُعْتَدِلَةُ مِنَ التَّمَتُّعِ بِهَا مَعَ الِاعْتِدَالِ وَالْتِزَامِ الْحَلَالِ، كَهَدْيهِ فِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُسْرِفُ فِيهَا بَعْضُ النَّاسِ وَيُقَصِّرُ بَعْضٌ، وَالِاعْتِدَالُ هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ

الصفحة 26