كتاب تفسير المنار (اسم الجزء: 7)

وَلَكِنَّ فَرْقًا بَيْنَ الصَّدَقَةِ وَبَيْنَ الْعِبَادَاتِ الْمَحْدُودَةِ الْمُقَيَّدَةِ، فَتَكْفِيرُ الذَّنْبِ إِنَّمَا يُرْجَى بِمَا فِي الْعِتْقِ مِنْ إِعَانَةِ الْعَتِيقِ عَلَى طَاعَتِهِ تَعَالَى، وَمَنْ قَالَ بِإِجْرَاءِ عِتْقِ الْكَفَّارَةِ لَا يُنْكِرُ الِاحْتِيَاطَ بِتَقْدِيمِ الْجَمْعِ عَلَيْهِ الْمُتَيَقَّنِ إِجْزَاؤُهُ عَلَى الْمَظْنُونِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ إِنْ وُجِدَا، وَلَكِنَّهُ يَرَى أَلَّا يَصُومَ إِذَا اسْتَطَاعَ عِتْقَ رَقَبَةٍ كَافِرَةٍ.
(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) أَيْ فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ إِطْعَامَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أَوْ كِسْوَتَهُمْ أَوْ تَحْرِيرَ رَقَبَةٍ فَعَلَيْهِ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَهِيَ أَدْنَى مَا يَكَفِّرُ بِهِ عَنْ يَمِينِهِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا لِمَرَضٍ نَوَى الصِّيَامَ عِنْدَ الْقُدْرَةِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ رُجِيَ لَهُ عَفْوُ اللهِ بِحُسْنِ نِيَّتِهِ وَصِحَّةِ عَزِيمَتِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُسْتَطِيعَ مَنْ يَجِدُ ذَلِكَ فَاضِلًا عَنْ نَفَقَتِهِ وَنَفَقَةِ مَنْ
يَعُولُ، وَعَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ: مَنْ عِنْدَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيُّ: مَنْ عِنْدَهُ عِشْرُونَ دِرْهَمًا، وَعَنِ الْحَسَنِ: مَنْ عِنْدَهُ دِرْهَمَانِ وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ صَوْمَ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ مُتَتَابِعَةً لِقِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ فِي الْآيَةِ، وَأَجَازَ غَيْرَهُمُ التَّفَرُّقَ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ لَيْسَ قُرْآنًا، وَلَمْ تَصِحَّ هُنَا حَدِيثًا فَيُقَالُ إِنَّهَا كَتَفْسِيرٍ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْآيَةِ.
(ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ) بِاللهِ أَوْ بِأَحَدِ أَسْمَائِهِ أَوْ صِفَاتِهِ فَحَنِثْتُمْ أَوْ أَرَدْتُمُ الْحِنْثَ وَقِيلَ: (إِذَا) هُنَا لِمُجَرَّدِ الظَّرْفِيَّةِ لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى الشَّرْطِ، فَلَا يُقَدَّرُ لَهَا جَوَابٌ، وَتَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ جَائِزٌ وَسَيَأْتِي دَلِيلُهُ مِنَ السُّنَّةِ.
(وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ) فَلَا تَبْذُلُوهَا فِي كُلِّ أَمْرٍ، وَلَا تُكْثِرُوا مِنَ الْأَيْمَانِ الصَّادِقَةِ فَضْلًا عَنِ الْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ، وَهُوَ وَجْهٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ) (2: 224) وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَإِذَا حَلَفْتُمْ فَلَا تَنْسَوْا مَا حَلَفْتُمْ عَلَيْهِ وَلَا تَحْنَثُوا فِيهِ إِلَّا لضَّرُورَةٍ عَارِضَةٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أَيْ مِثْلَ هَذَا الْبَيَانِ الْبَدِيعِ، وَعَلَى نَحْوِهِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَأَعْلَامَ دِينِهِ لِيَعِدَكُمْ وَيُؤَهِّلَكُمْ بِذَلِكَ إِلَى شُكْرِ نِعَمِهِ الْمَادِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَيَكُونَ سَبَبًا لِلْمَزِيدِ عَنْهُ.
مَبَاحِثٌ فِي الْأَيْمَانِ.
(لَا يَجُوزُ فِي الْإِسْلَامِ الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ وِصِفَاتِهِ) .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلَا يَحْلِفُ إِلَّا بِاللهِ " وَرَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَرَوَيَا عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ عُمَرَ وَهُوَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ فَقَالَ: " إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أَوْ لِيَصْمُتْ " وَرَوَى أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ قُتَيْلَةَ بِنْتِ صَيْفِيٍّ " أَنَّ يَهُودِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّكُمْ تُنَدِّدُونَ (أي تَتَّخِذُونَ لِلَّهِ أَنْدَادًا) وَإِنَّكُمْ تُشْرِكُونَ وَتَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللهُ

الصفحة 34