كتاب تفسير المنار (اسم الجزء: 7)

(لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) وَرَدَ فِي عِدَّةِ رِوَايَاتٍ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ اسْتَشْكَلُوا عِنْدَ نُزُولِ هَذَا التَّشْدِيدِ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ حَالَ مَنْ مَاتَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَأْكُلُونَ الْمَيْسِرَ، وَلَا سِيَّمَا مَنْ حَضَرَ مِنْهُمْ غَزْوَتَيْ بَدْرٍ وَأُحُدٍ، وَكَانَ أَمْرُ الْخَمْرِ عِنْدَهُمْ أَهَمَّ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَمَّنْ مَاتُوا وَعَنِ الْغَائِبِينَ الَّذِينَ لَمْ تَبْلُغْهُمْ آيَةُ الْقَطْعِ بِالتَّحْرِيمِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ جَوَابًا لَهُمْ، وَقِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيمَنْ كَانُوا يُشَدِّدُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي الطَّيِّبَاتِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ خَتْمًا لِلسِّيَاقِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِحَالِ مَنْ بُدِئَ بِهِمْ وَالرِّوَايَاتُ الْمَأْثُورَةُ عَلَى الْأَوَّلِ.
الطَّعَامُ مَا يُؤْكَلُ، وَالطَّعْمُ (بِالْفَتْحِ) مَا يُدْرَكُ بِذَوْقِ الْفَمِ مِنْ حَلَاوَةٍ وَمَرَارَةٍ وَغَيْرِهِمَا يُقَالُ: طَعِمَ (كَعَلِمَ وَغَنِمَ) فُلَانٌ بِمَعْنَى أَكَلَ الطَّعَامَ وَطَعِمَ الشَّيْءَ يَطْعَمُهُ ذَاقَ طَعْمَهُ أَوْ ذَاقَهُ فَوَجَدَ طَعْمَهُ مِنْهُ، اسْتُعْمِلَ فِي ذَوْقِ طَعَامِ الشَّيْءِ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ
يُؤْخَذُ قَلِيلٌ مِنْهُ بِمُقَدَّمِ الْفَمِ، وَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) (33: 53) أَيْ أَكَلْتُمْ، وَمِنَ الثَّانِي: (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) (2: 249) أَيْ لَمْ يَذُقْ طَعْمَ مَائِهِ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الطَّعْمُ بِالْفَتْحِ مَا يُؤَدِّيهِ الذَّوْقُ، يُقَالُ: طَعْمُهُ مُرٌّ أَوْ حُلْوٌ، وَقَالَ طَعِمَ يَطْعَمُ طُعْمًا (بِالضَّمِّ) فَهُوَ طَاعِمٌ إِذَا أَكَلَ أَوْ ذَاقَ مِثْلَ غَنِمَ يَغْنَمُ غُنْمًا فَهُوَ غَانِمٌ فَالطُّعْمُ بِالضَّمِّ مَصْدَرٌ، وَأَنْشَدَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ:
فَأَمَّا بَنُو عَامِرٍ بِالنِّسَارِ ... غَدَاةَ لَقُونَا فَكَانُوا نَعَامًا
نَعَامًا بِخَطْمَةِ صُعْرِ الْخُدُو ... دِ، لَا تَطْعَمُ الْمَاءَ إِلَّا صِيَامًا
شَبَّهَهُمْ بِالنَّعَامِ الَّتِي لَا تَرِدُ الْمَاءَ وَلَا تَذُوقُهُ، وَصَرَّحَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ بِأَنَّ طَعِمَ بِمَعْنَى أَكَلَ الطَّعَامَ، وَأَنَّهُ إِذَا جُعِلَ بِمَعْنَى الذَّوْقِ جَازَ فِيمَا يُؤْكَلُ وَيُشْرَبُ، وَاسْتَشْهَدَ الْمُفَسِّرُونَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَإِنْ شِئْتُ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ ... وَإِنْ شِئْتُ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاخًا وَلَا بَرْدًا.
النُّقَاخُ بِالضَّمِّ الْمَاءُ الْبَارِدُ، وَالْبَرْدُ النَّوْمُ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَلَا تَرَى كَيْفَ عَطَفَ عَلَيْهِ الْبَرْدَ وَهُوَ النَّوْمُ، وَيُقَالُ: مَا ذُقْتُ غِمَاضًا. اه.
وَقَالَ الْآلُوسِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَأَمَّا اسْتِعْمَالُهُ (أَيْ طَعِمَ الْمَاءَ) بِمَعْنَى شَرِبَهُ وَاتَّخَذَهُ طَعَامًا فَقَبِيحٌ إِلَّا أَنْ يَقْتَضِيَهُ الْمَقَامُ، كَمَا فِي حَدِيثِ: " زَمْزَمُ طَعَامُ طُعْمٍ وَشِفَاءُ سُقْمٍ " فَإِنَّهُ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهَا تُغَذِّي بِخِلَافِ سَائِرِ الْمِيَاهِ، وَلَا يَخْدِشُ هَذَا مَا حُكِيَ أَنَّ خَالِدًا الْقَسْرِيَّ قَالَ عَلَى مِنْبَرِ

الصفحة 59