كتاب تفسير المنار (اسم الجزء: 7)

فَالْحَاصِلُ: أَنَّ أَوَّلَ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ فِي الْخَمْرِ لَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ، بَلْ هُوَ مَنْ جَعَلَ الدَّلِيلَ عَيْنَ الْمَدْلُولِ، فَإِنَّهُ هُوَ الْمُخَالِفُ وَحْدَهُ، فَكَيْفَ تَكُونُ دَعْوَاهُ الْخِلَافَ حُجَّةً لِخِلَافِهِ؟ هَذِهِ مُصَادَرَةٌ بَدِيهِيَّةٌ، نَعَمْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذِهِ شُبْهَةٌ عَرَضَتْ لِمَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّقْلُ عَنِ الصَّحَابَةِ، فَهُوَ مَعْذُورٌ فِيهَا إِلَى أَنْ يَبْلُغَهُ النَّقْلُ، فَمَتَى بَلَغَهُ زَالَتِ الشُّبْهَةُ بِالْحُجَّةِ.
وَأَمَّا مِنْ جَاءَ بَعْدَ الْمُخَالِفِ الْأَوَّلِ وَبَلَغَهُ خِلَافُهُ فَشَبْهَتُهُ أَقْوَى عِنْدَ أَهْلِ التَّقْلِيدِ، وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْحُجَّةِ وَالْبَصِيرَةِ فِي الدِّينِ، فَالْكَلَامُ مَعَهُمْ لَغْوٌ مَا لَمْ يُحْكِمُوا الدَّلِيلَ وَيَرْضَوْا بِحُكْمِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) (4: 59) الْآيَةَ، فَإِنْ رَضُوا بِهِ بَيَّنَّا لَهُمْ مَا صَحَّ مِنْ فَهْمِ الصَّحَابَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَعَمَلِهِمْ بِهِ بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَمَا صَحَّ مِنْ قَوْلِ رَسُولِهِ: " كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ " وَلَفْظُ الْمُسْكِرِ اسْمُ جِنْسٍ.
(تَشْدِيدُ السُّنَّةِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ) .
رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ حُرِمَهَا فِي الْآخِرَةِ " زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةٍ " فَلَمْ يُسْقَهَا ".
قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فَيَشْرَبُهُ فِيهَا، وَقِيلَ: لَا يَشْرَبُهَا فِيهَا وَإِنْ مَاتَ مُؤْمِنًا وَدَخَلَهَا، لِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ شَيْئًا فَجُوزِيَ بِحِرْمَانِهِ، وَقِيلَ: إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللهُ عَنْهُ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالْحَمْلِ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ لِشُرْبِهَا، لِأَنَّهُ رَادٌّ لِلشَّرِيعَةِ غَيْرُ مُذْعِنٍ لَهَا، وَرِوَايَةُ مُسْلِمٍ " فَلَمْ يُسْقَهَا " ظَاهِرَةٌ فِي رَدِّهِ.
ورُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ بِلَفْظِ " كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا فَمَاتَ وَهُوَ يُدْمِنُهَا لَمْ يَتُبْ لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ " وَقَدْ عَزَاهُ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ إِلَى الشَّيْخَيْنِ وَأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ قَالَ وَلَفْظُهُ فِي إِحْدَى رِوَايَاتِهِ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ وَإِنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ " وَهَذَا يَرُدُّ ذَلِكَ التَّأْوِيلَ أَيْضًا وَلَكِنَّهُ لَمْ يَمْنَعِ الْمُنْذِرِيُّ مِنْ حِكَايَتِهِ كَغَيْرِهِ.
وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ " وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ تُقَدَّمُ الْخَمْرُ عَلَى السَّرِقَةِ، قِيلَ: هَذَا فِي الْمُسْتَحَلِّ، وَقِيلَ: النَّفْيُ لِكَمَالِ الْإِيمَانِ: وَقِيلَ: وَهُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْإِيمَانَ يُفَارِقُ مُرْتَكِبَ أَمْثَالِ هَذِهِ الْكَبَائِرِ مُدَّةَ
مُلَابَسَتِهِ لَهَا وَقَدْ يَعُودُ إِلَيْهِ بَعْدَهَا، وَحَقَّقَ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ التَّوْبَةِ مِنَ الْإِحْيَاءِ أَنَّ مُرْتَكِبَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ

الصفحة 71