كتاب تفسير المنار (اسم الجزء: 7)

وَيَقُولُ بَعْضُ النَّصَارَى: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِبَ الْخَمْرَ مَعَ بَحِيرَا الرَّاهِبِ وَبَعْضِ الصَّحَابَةِ، وَأَنَّ بَعْضَ مَنْ سَكِرَ مِنَ الصَّحَابَةِ قَتَلَ الرَّاهِبَ بِسَيْفِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ تَحْرِيمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْخَمْرِ وَهَذَا قَوْلٌ مُخْتَلَقٌ لَا أَصْلَ لَهُ الْبَتَّةَ، فَلَمْ يُرْوَ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ وَلَا مَوْضُوعٍ، وَبَحِيرَا الرَّاهِبُ لَمْ يَجِئِ الْحِجَازَ، وَإِنَّمَا رُوِيَ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِ مِنْ تُجَّارِ مَكَّةَ فِي بُصْرَى بِالشَّامِ وَلَمَّا اخْتَبَرَ حَالَهُ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَكُونُ هُوَ النَّبِيُّ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ عِيسَى وَالْأَنْبِيَاءُ (عَلَيْهِمُ السَّلَامُ) وَأَوْصَى بِهِ عَمَّهُ وَحَذَّرَهُ مِنَ الْيَهُودِ أَنْ يَكِيدُوا لَهُ، وَكَانَتْ سِنُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ بَحِيرَا أَدْرَكَ الْبَعْثَةَ، وَلَيْسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي حَرَّمَ الْخَمْرَ كَمَا حَرَّمَ صَيْدَ الْمَدِينَةِ وَخَلَّاهَا: بَلْ كَانَ ذَلِكَ بِوَحْيٍ تَدْرِيجِيٍّ كَمَا تَقَدَّمَ.
(التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ) .
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ وَالنَّجَاسَاتِ وَالسُّمُومِ لِحَدِيثِ طَارِقِ بْنِ سُوِيدٍ الْجُعْفِيِّ فِي الْخَمْرِ سَيَأْتِي وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ " نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الدَّوَاءِ الْخَبِيثِ يَعْنِي السُّمَّ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَحَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا: " إِنَّ اللهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً فَتَدَاوَوْا وَلَا تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلِ بْنِ عَيَّاشٍ وَهُوَ ثِقَةٌ فِي الشَّامِيِّينَ كَمَا هُنَا، ضَعِيفٌ فِي الْحِجَازِيِّينَ وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ إِذْنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعُرَنِيِّينَ بِالتَّدَاوِي بِأَبْوَالِ الْإِبِلِ، قَالَ بَعْضُهُمْ بِعَدَمِ الْجَوَازِ مُطْلَقًا، وَقَالَ آخَرُونَ: يَجُوزُ بِشَرْطِ عَدَمِ وُجُودِ دَوَاءٍ مِنَ الْحَلَالِ يَقُومُ مَقَامَ الْحَرَامِ، وَقَالَ شَيْخُنَا مُحَمَّد عَبْده: يُشْتَرَطُ فِي التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ أَلَّا يَقْصِدَ الْمُتَدَاوِي بِهَا اللَّذَّةَ وَالنَّشْوَةَ وَلَا يَتَجَاوَزُ مِقْدَارَ مَا يُحَدِّدُهُ الطَّبِيبُ، وَقَدْ جَاءَ فِي فَتَاوَى الْمُجَلَّدِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنَ الْمَنَارِ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ الْآتِيَيْنِ:
(السُّؤَالُ) هَلْ يَحِلُّ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ إِذَا ظُنَّ نَفْعُهَا بِخَبَرِ طَبِيبٍ أَخْذًا مِنْ آيَةِ (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (22: 78) وَمِنَ الْقَاعِدَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا: الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ؟ وَإِذَا جَوَّزْتُمْ فَمَاذَا تَرَوْنَ فِي حَدِيثِ " إِنَّهَا دَاءٌ وَلَيْسَ بِدَوَاءٍ " أَوْ كَمَا وَرَدَ؟
(الْجَوَابُ) التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ لِمَنْ ظَنَّ نَفْعَهَا شَيْءٌ وَالِاضْطِرَارُ إِلَى شُرْبِهَا شَيْءٌ آخَرُ، فَأَمَّا الِاضْطِرَارُ فَإِنَّمَا يَعْرِضُ لِبَعْضِ الْأَفْرَادِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَهُوَ يُبِيحُ الْمُحَرَّمَ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ بِنَصِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) (6: 119) يَنْفِي الْحَرَجَ وَالْعُسْرَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ (أَيْ كَالنَّهْيِ عَنِ الْإِلْقَاءِ بِالنَّفْسِ إِلَى التَّهْلُكَةِ) وَقَدْ مَثَّلَ الْفُقَهَاءُ لَهُ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ بِمَنْ غُصَّ بِلُقْمَةٍ فَكَادَ يَخْتَنِقُ وَلَمْ يَجِدْ مَا يُسِيغُهَا بِهِ سِوَى الْخَمْرِ وَمِثْلُهُ مَنْ دَنَقَ مِنَ الْبَرْدِ وَكَادَ يَهْلِكُ وَلَمْ يُوجَدْ مَا يَدْفَعُ بِهِ الْهَلَاكَ بَرْدًا سِوَى جَرْعَةٍ أَوْ كُوبٍ مِنْ خَمْرٍ.

الصفحة 75