كتاب تفسير المنار (اسم الجزء: 7)

وَمَا كَانَ ذَلِكَ الْإِصْرُ وَالْأَغْلَالُ إِلَّا شِدَّةَ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْأَحْكَامِ الْمَدَنِيَّةِ وَالْجِنَائِيَّةِ، وَشِدَّةِ أَحْكَامِ الْإِنْجِيلِ فِي الزُّهْدِ وَإِذْلَالِ النَّفْسِ وَحِرْمَانِهَا.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ النَّصَارَى أَقْرَبَ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى الْإِسْلَامِ بِطَبِيعَةِ دِينِ كُلٍّ مِنْهُمَا - وِفَاقًا لِتَعْلِيلِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ - كَثْرَةُ مَنْ يُسْلِمُ مِنَ النَّصَارَى فِي كُلِّ زَمَانٍ وَقِلَّةِ مَنْ يُسْلِمُ مِنَ الْيَهُودِ، وَلَوْلَا ضَعْفُ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَإِعْرَاضُهُمْ عَنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ، وَلَوْلَا إِهْمَالُهُمُ الدَّعْوَةَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَإِبْرَازَهُ بِصُورَتِهِ الصَّحِيحَةِ لِلْأَنَامِ، وَلَوْلَا فَسَادُ حُكُومَاتِهِمْ وَعَجْزُ رِجَالِهِمْ فِي السِّيَاسَةِ، وَتَخَلُّفُهُمْ عَنْ مُجَارَاةِ الْأُمَمِ فِي الْعِلْمِ وَالْحَضَارَةِ، وَلَوْلَا بُلُوغُ دُوَلِ الْإِفْرِنْجِ النَّصْرَانِيَّةِ فِيهِ أَوْجَ الْعِزَّةِ وَالْقُوَّةِ، وَسَبْقُ أُمَمِهِمْ فِي حَلَبَةِ الْمَدَنِيَّةِ وَالثَّرْوَةِ، وَاسْتِمَالَتُهُمْ لِنَصَارَى الشَّرْقِ وَجَذْبُهُمْ إِلَيْهِمْ، وَاعْتِزَازُ هَؤُلَاءِ بِهِمْ، وَتَلَقِّيهِمْ أَسَالِيبَ التَّرْبِيَةِ الدِّينِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ عَنْهُمْ، وَجَعْلُ الدِّينِ فِيهَا مِنَ الْمُقَوِّمَاتِ الْجِنْسِيَّةِ لِلْأَقْوَامِ وَالشُّعُوبِ تُرَبَّى عَلَى أَنْ تُحَافِظَ عَلَيْهَا كَمَا تُحَافِظُ عَلَى لُغَتِهَا، فَلَا تَسْتَبْدِلُ بِهَا غَيْرَهَا وَإِنَّ كَانَتْ خَيْرًا مِنْهَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قَوَانِينِ هَذِهِ التَّرْبِيَةِ وَأَسَالِيبِهَا وَلَوْلَا مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنَ التَّنَازُعِ السِّيَاسِيِّ الدُّنْيَوِيِّ بَيْنَ دُوَلِنَا وَدُوَلِهِمْ، لَوْلَا ذَلِكَ كُلُّهُ لَكَانَتِ الْمَوَدَّةُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ أَتَمَّ وَانْتِشَارُ الْإِسْلَامِ فِيهِمْ أَعَمَّ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ إِصْلَاحٌ فِي النَّصْرَانِيَّةِ، كَمَا أَنَّ النَّصْرَانِيَّةَ إِصْلَاحٌ فِي الْيَهُودِيَّةِ، فَالْيَهُودُ الَّذِينَ عَادَوُا النَّصْرَانِيَّةَ كَانُوا أَحْذَرَ مِمَّنْ صَلَحُوا بِهَا بِعَدَاوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَدِينِ اللهِ عَلَى أَلْسِنَةِ مُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّهُ جَرَى مَعَ الْبَشَرِ عَلَى سُنَّةِ الِارْتِقَاءِ، إِلَى أَنْ بَلَغَ سِنَّ الْكَمَالِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كُنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ سَبَبَ مَا ذَكَرَهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ كَوْنِ النَّصَارَى أَقْرَبَ النَّاسِ مَوَدَّةً لِلْمُؤْمِنِينَ هُوَ تَعَالِيمُ دِينِهِمْ وَتَقَالِيدُهُ، وَأَنَّهُ لِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِيهِمْ، وَإِنْ نَزَلَ فِي طَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْهُمْ، وَإِذَا انْتَفَتِ الْمَوَانِعُ فَبِمَاذَا تُجِيبُ عَنِ الْحَرْبِ الصَّلِيبِيَّةِ الَّتِي أَوْقَدَ النَّصَارَى نَارَهَا بِاسْمِ الدِّينِ، وَلَمْ يَلْقَ الْمُسْلِمُونَ مِثْلَهَا مِنَ الْيَهُودِ وَلَا مِنَ
الْمُشْرِكِينَ، وَيَقْرُبُ مِنْ ذَلِكَ سَائِرُ الْحُرُوبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّصَارَى؟ فَإِنَّ عِنْدِي جَوَابَيْنِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ أَوْ جَوَابًا مِنْ وَجْهَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) أَنَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الدِّينِ الْقَرِيبِ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ، بَلِ الَّذِي هُوَ إِصْلَاحٌ فِيهَا وَإِكْمَالٌ لَهَا كَمَا قَرَّرْنَا، لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا عِنْدَ أُولَئِكَ الصَّلِيبِينَ، بَلْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ صُورَةً فِي مُخَيِّلَاتِهِمْ غَيْرَ صُورَتِهِمُ الصَّحِيحَةِ الَّتِي طَبَعَهَا فِي قُلُوبِهِمْ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ، صُورَةً وَثَنِيَّةً وَحْشِيَّةً مُشَوَّهَةً أَقْبَحَ التَّشْوِيهِ، مُنْعَكِسَةً عَنِ الْكُتُبِ وَالرَّسَائِلِ وَالْخُطَبِ الَّتِي كَانَ يُنْشِئُهَا بُطْرُسُ الرَّاهِبُ وَأَمْثَالُهُ، وَلَوْ وَصَفَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ قَوْمٌ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ مُثِيرُو الْحَرْبِ الصَّلِيبِيَّةِ وَدَعَوْا إِلَى قِتَالِهِمْ لَنَفَرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا.

الصفحة 9