كتاب تفسير المنار (اسم الجزء: 9)

مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ، إِلَى الْغَرَقِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْجَحِيمِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْوَصْفَ أَظْهَرُ فِي بِلَادِ الشَّامِ ذَاتِ الْجَنَّاتِ الْكَثِيرَةِ، وَالْعُيُونِ الْجَارِيَةِ، وَمَعْنَى إِخْرَاجِ الْمِصْرِيِّينَ مِنْهَا إِزَالَةُ سِيَادَتِهِمْ وَسُلْطَانِهِمْ عَنْهَا، وَحِرْمَانِهِمْ مِنَ التَّفَكُّهِ بِنَعِيمِهَا، فَقَدْ كَانَتْ بِلَادُ فَلَسْطِينَ إِلَى الشَّامِ تَابِعَةً لِمِصْرَ، وَكَانَ مِنْ عَادَةِ فَرَاعِنَةِ مِصْرَ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُسْتَعْمِرَةِ أَنْ يُقِيمُوا فِي الْبِلَادِ الَّتِي يَسْتَوْلُونَ عَلَيْهَا حُكَّامًا وَجُنُودًا لِئَلَّا تَنْتَقِضَ عَلَيْهِمْ، وَأَنْ يَسْكُنَهَا كَثِيرُونَ مِنْهُمْ يَتَمَتَّعُونَ بِخَيْرَاتِهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ جُمْلَةً مِنَ الْأَثَرِ الْمِصْرِيِّ الْقَدِيمِ الْوَحِيدِ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ ذِكْرٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ تَنْطِقُ بِأَنَّ هَذِهِ الْبِلَادَ كَانَتْ تَابِعَةً لِمِصْرَ.
عَلَى أَنَّهُ وُجِدَ فِي بَعْضِ التَّوَارِيخِ الْقَدِيمَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَهُ بَعْضُ مُفَسِّرِينَا مِنْ أَنَّ مُوسَى اسْتَوْلَى عَلَى مِصْرَ، وَتَمَتَّعَ هُوَ وَقَوْمُهُ بِالسِّيَادَةِ فِيهَا طَائِفَةً مِنَ الزَّمَنِ، نَذْكُرُهُ لِلِاعْتِبَارِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ صِدْقُ الْآيَاتِ غَيْرَ مَقْصُورٍ عَلَى صِحَّةِ مَضْمُونِهِ، وَهُوَ مَا جَاءَ فِي حَاشِيَةٍ لِأَحَدِ مَبَاحِثِ الدُّكْتُورِ مُحَمَّد تَوْفِيق صِدْقِي (رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى) فِي كُتُبِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، وَعَقَائِدِ النَّصْرَانِيَّةِ، وَهَذَا نَصُّهُ (كَمَا فِي ص446، 447 مِنْ مُجَلَّدِ الْمَنَارِ السَّادِسَ عَشَرَ) :
" جَاءَ فِي كِتَابِ (الْأُصُولِ الْبَشَرِيَّةِ) صَفْحَةِ 88 لِمُؤَلِّفِهِ لِيَنْجَ أَنَّ يُوسِيفُوسَ الْمُؤَرِّخَ الْيَهُودِيَّ الشَّهِيرَ نَقَلَ عَنْ (مَانِيثُونَ) هَذِهِ الرِّوَايَةَ الْمِصْرِيَّةَ الْقَدِيمَةَ الَّتِي مُلَخَّصُهَا " أَنَّ مُوسَى بَعْدَ أَنْ هَزَمَ فِرْعَوْنَ مِصْرَ - الَّذِي فَرَّ إِلَى بِلَادِ الْحَبَشَةِ - حَكَمَ مِصْرَ 13 سَنَةً، وَبَعْدَ ذَلِكَ عَادَ إِلَى فِرْعَوْنَ هُوَ وَابْنُهُ، وَمَعَهُمَا جَيْشٌ عَظِيمٌ فَقَهَرُوهُ وَأَخْرَجُوهُ مِنْهَا إِلَى بِلَادِ الشَّامِ " وَجَاءَ فِي قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ
لِبُوسْتَ مُجَلَّدِ 1ص410 أَنَّ هِيرُودُوتَسَ الْمُؤَرِّخَ الْيُونَانِيَّ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ قَبْلَ الْمِيلَادِ قَالَ: " إِنَّ ابْنَ سِيسُوسِتَرْسَ ضُرِبَ بِالْعَمَى مُدَّةَ عَشْرِ سِنِينَ؛ لِأَنَّهُ رَمَى رُمْحَهُ فِي النَّهْرِ، وَقَدِ ارْتَفَعَتْ أَمْوَاجُهُ وَقْتَ فَيْضِهِ؛ بِسَبَبِ نَوْءٍ شَدِيدٍ إِلَى عُلُوٍّ غَيْرِ اعْتِيَادِيٍّ " اهـ، وَيَقُولُ الْمُؤَرِّخُونَ: إِنَّ ابْنَ سِيسُوسِتَرْسَ هَذَا (وَهُوَ مِنْفِتَاحُ الثَّانِي) هُوَ فِرْعَوْنُ الْخُرُوجِ، وَيَتَّخِذُونَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ إِشَارَةً إِلَى غَرَقِهِ فِي زَمَنِ مُوسَى، لَكِنْ يَرَى الْقَارِئُ مِنْهَا أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ إِشَارَةً إِلَى الْغَرَقِ لَكَانَ الْغَرَقُ فِي النِّيلِ، وَمِنَ الرِّوَايَةِ الْأُولَى يُعْلَمُ أَنَّ مُوسَى حَكَمَ بَعْدَ فِرْعَوْنَ 13 سَنَةً فِي مِصْرَ، وَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ هُمَا مِنْ أَقْدَمِ الرِّوَايَاتِ الْمِصْرِيَّةِ وَأَصَحِّهَا، وَرُبَّمَا كَانَتَا الْوَحِيدَتَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَعَلَّ الْمِصْرِيِّينَ اسْتَغَاثُوا بِمَمْلَكَةِ الْحَبَشَةِ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِمْ جَيْشًا فَأَوْحَى اللهُ إِلَى مُوسَى بِالْخُرُوجِ حِينَئِذٍ مِنْ مِصْرَ، وَتَرْكِهَا لِأَهْلِهَا، وَعَلَيْهِ يَجُوزُ أَنَّ الْمِصْرِيِّينَ كَتَمُوا خَبَرَ غَرَقِ مَلِكِهِمْ، وَاسْتَبْدَلُوا بِهِ دَعْوَى تَقَهْقُرِهِ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ هُوَ الَّذِي عَادَ بَعْدَ ذَلِكَ

الصفحة 86