كتاب تفسير المنار (اسم الجزء: 11)

التَّوْبَةُ: بِالْعِلْمِ الصَّحِيحِ بِقُبْحِ الذَّنْبِ وَسُوءِ عَاقِبَتِهِ وَأَلَمِ الْوِجْدَانِ مِنْ تَصَوُّرِ سَخَطِ اللهِ وَالْخَوْفِ مِنْ عِقَابِهِ، وَالْإِقْلَاعِ عَنِ الذَّنْبِ أَوِ الذُّنُوبِ؛ بِبَاعِثِ هَذَا الْأَلَمِ الَّذِي هُوَ ثَمَرَةُ ذَلِكَ الْعِلْمِ، وَالْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ إِلَى اقْتِرَافِهَا، ثُمَّ الْعَمَلِ بِضِدِّهَا ; لِيُمْحَى مِنَ النَّفْسِ أَثَرُهَا، وَالرِّوَايَاتُ صَرِيحَةٌ بِأَنَّ اعْتِرَافَ مَنْ ذَكَرَ بِذُنُوبِهِمْ قَدِ اسْتَتْبَعَ كُلَّ هَذَا.
(إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تَعْلِيلٌ لِرَجَاءِ قَبُولِ تَوْبَتِهِمْ، إِذْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَثِيرُ الْمَغْفِرَةِ لِلتَّائِبِينَ وَاسِعُ الرَّحْمَةِ لِلْمُحْسِنِينَ، كَمَا قَالَ: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) (20: 82) وَكَمَا قَالَ: (إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (7: 56) وَكَمَا قَصَّ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِ اسْتِغْفَارِ الْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ قَوْلَهُمْ: (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينِ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) إِلَى قَوْلِهِ: (وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ) (40: 7 - 9) .
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَرْجَى آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ، وَقَالَ آخَرُونَ أَرْجَى الْآيَاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ
رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (39: 53) وَإِنَّمَا هَذَا عِلَاجٌ لِمَنِ اشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْخَوْفُ مِنْ إِسْرَافِهِمْ فِي شَهَوَاتِهِمْ، حَتَّى كَادُوا يَقْنَطُونَ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِمْ لَا لِلْمُصِرِّينَ عَلَى ذُنُوبِهِمْ بِغَيْرِ مُبَالَاةٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهَا: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) (39: 54) إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ.
وَمِنَ الْعِبْرَةِ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ لِلْمُسْلِمِينَ أَنَّ قِسْمَ الَّذِينَ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا يُوجَدُ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، كَقِسْمِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَمَّا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ الْأَوَّلُونَ الَّذِينَ أَقَامَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِمْ بِنَاءَ الْإِسْلَامِ فَهُمُ الَّذِينَ لَا يَلْزَبُهُمْ قَرِينٌ. وَلَا يَلْحَقُهُمْ لَاحِقٌ مِنَ الْعَالَمِينَ، وَلَعَلَّ أَكْثَرَ الْمُسْلِمِينَ الصَّادِقِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنَ الَّذِينَ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا، وَلَعَلَّ أَسْوَأَ سَيِّئَاتِهِمْ تَرْكُ الْجِهَادِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَجِبُ أَنْ يَسْتَرْشِدُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَبِمَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا مِنْ تَوْبَةِ أَبِي لُبَابَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَلَا تَتِمُّ الْعِبْرَةُ بِهَا، إِلَّا بِتَدَبُّرِ مَا بَعْدَهَا، وَهُوَ تَطْهِيرُ النَّفْسِ مِنَ النِّفَاقِ وَضَعْفِ الْإِيمَانِ، بِبَذْلِ الصَّدَقَاتِ وَغَيْرِهِ مِنْ صَالِحِ الْأَعْمَالِ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ مَرْفُوعًا: أَتَانِي اللَّيْلَةَ (أَيْ فِي النَّوْمِ) مَلَكَانِ فَابْتَعَثَانِي فَانْتَهَيَا بِي إِلَى مَدِينَةٍ بِلَبِنٍ ذَهَبٍ، وَلَبِنٍ فِضَّةٍ فَتَلَقَّانَا رِجَالٌ شَطْرٌ مِنْ خَلْقِهِمْ كَأَحْسَنَ مَا أَنْتَ رَاءٍ، وَشَطْرٌ كَأَقْبَحَ مَا أَنْتَ رَاءٍ قَالَا لَهُمْ: اذْهَبُوا فَقَعُوا فِي ذَلِكَ النَّهْرِ، فَوَقَعُوا فِيهِ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْنَا قَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ السُّوءُ عَنْهُمْ فَصَارُوا

الصفحة 18